آثرتُ الحديث عن ثورة الجنوب وليس الحراك السلمي ، فأنا والأخير في خصومة حول تقبّل فكرة مفهوم الحراك السلمي لإيماني بأن الجنوب كدولة ينشد العودة إلى وضعه ما قبل كارثة الوحدة فلا ينطبق على نضالنا هذا التعريف ، علاوةً على أن الحراك السلمي يمكن أن ينطبق على الأقليات المضطهدة في دولةٍ ما كما هو الحال مع التهاميين وحراكهم السلمي ، أو الحوثيين وحراكهم المسلح ، أما نحن في الجنوب العربي فقد ظلمنا أنفسنا بقبول هذا التوصيف ، وتقزيم معنى الثورة في مفهوم الحراك . هنالك عناصر جنوبية ممن كنا نعدهم مناضلين من الصف القيادي الأول ، اتخذوا موقفاً معادياً من هذا الحراك منذ بدايته برغم سلميته ، وبرغم انحسار تلك البداية على مجرد مطالبَ حقوقية صرفة ، واستمر بهم الحال على الرغم من اشتداد وتيرة العنف من قبل المحتل ، وارتفاع حصيلة الشهداء ، ووصول الأعداد الجماهيرية المتظاهرة إلى القراءة المليونية في كل مرة ، تمنينا أن يُحدِث خطاب السيد علي سالم البيض صدىً عند تلك الثلة المتجاهلة نبض الشارع ، البيض الذي اختزل الحكاية برمتها في جملة مفيدة عبر قناة فضائية مفادها : " نرجوا لإخواننا في سلطة الإحتلال أن يأخذوا حِذرَهم ، ونتمنى لهم السلامة " هذه السلامة التي ما زالت غائبة بغياب الحذر ، ولم نجد أياً ممن نطلق عليهم قادة مكونات الحراك التي ظهرت ولم تلتفت إلى البيض - كزعيم وقائد سبقهم في مضمار الدعوة إلى التحرير والإستقلال - لم نجد مكوناً واحداً يعلن اعترافه بالرئيس علي سالم البيض قائداً للزحف ، إلا أن الجماهير التي لم تهتف لسواه ، كانت أكثر إنصافاً من هذه المكونات الهشة ، التي بالغت في تعنتها والنكران ، وذهبت تغرد خارج السرب ، ولم تكترث بجماهير المسيرات المليونية التي اتخذت اسم البيض ورسمه شعاراً لها على طريق هدفها المنشود ، ومن نكد الدنيا على هذه الجماهير أن خصومها تمادوا في الإضرار بقضيتها ، فانبرى البعض يرى القضية من منظور الوحدة التي لا تقر بمفاهيم الإحتلال والهوية ، وحتى سقوط الشهداء ، ومعاناة الشعب تحت سوط العذاب ، ونهب الثروات ، وحصار المدن ، وتفشي الفساد ، واعتقال النشطاء ، كل هذا كان خارج الأجندة التي لا تكترث بسوى الدعوة إلى الفيدرالية ، واعتبار ما سواها زندقة تستوجب اللامبالاة . واليوم وقد وصلت الأمور في صنعاء إلى ما حذر منه البيض ، وجدنا شبه التفاتة إلى القضية الجنوبية من هؤلاء العصاة ، وربما استيقظت قناعة البعض منهم إلى حقيقة أن ثروات الجنوب هي الشغل الشاغل لأقطاب الصراع بمن فيهم عفاش وبيت الأحمر والحوثيين ، ومن يتبع هذا المثلث البرموي من عبدة المنافع والمصالح الذاتية .. وسال لعاب بعض المكونات ، وهي ترى إمكانية استعادة الجنوب من براثن هذا المحتل الآثم المتشظي كهيكل الثلج ، فذهبت تدعو إلى مؤتمر اسمته الجامع ، وخلفه يقف الجفري ولفيف السلاطين الذين كشروا عن أنيابهم وفاجأونا بدعوة الأخذ بالثأر ، فالماضي وشخوصه في نظرهم يجي أن يمثل في قفص الإتهام ويُحاكَم ، وهم بهذا يضربون عرض الحائط بكل معنى للتصالح والتسامح ، وعلى أنقاض الخلافات القديمة سيقيمون هيكل سليمان ليعود بذلك العهد السلاطيني الإقطاعي المندثر . إن المكونات المذكورة قد عزفت على وتر عدم اتحاد القيادات ، وهي تعلم استحالة هذا التوحد بالنظر إلى التنافر في طبيعة الهدف الذي يحمله كل مكون ، وطمرت في غمرة صراخها ذاك أحقية مكون التحرير والإستقلال الذي يتزعمه البيض في قيادة الركب ، والظهور أمام العالم بوحدة القيادة ، وهي الشماعة التي يعلق عليها المجتمع الدولي تقاعسه في دعم قضية الجنوب ، وعليه فإن هذه المكونات بموقفها من الرئيس على خلفية خصومات في الماضي الذي تولى ، قد أضرت بمسيرة الثورة السلمية أيّما ضرر ، وما زالت تكيد لها كيدا ، وعلى الجنوبيين الشرفاء أن يقفوا موقفاً شجاعاً من هذه الصراعات ، وفهم طبيعتها المُرة . أخيراً .. أود القول بأن كل نقطة تم التعرض إليها في هذه العجالة تصلح لأن تكون عنواناً لمقالة قائمة بحد ذاتها ، والحديث فيها بإسهاب لا تجيزه هذه الصفحة التي تجبرك على أن تتمثل مقولة لكل مقامٍ مقال .