"نرفض الانغلاق والعزلة واستعداء الآخر". بضعُ كلمات بسيطة، قالها خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز -رحمه الله - يمرُ عليها كثيرون سريعاً، دون مزيد تبصر، وكأنهم غير معنيين بها، أو لا تمثل أي قيمة فكرية لهم، إلا أنها في جوهرها، ترسم منهاجاً مهماً في حياة الفرد والمجتمع. لأنها ترجعُ إلى الطريقة التي تبتني عليها الأفكار، وزاوية النظر التي ترسم السياسات. رفض الانغلاق والعزلة، معناه الانفتاح على الآخر، والخروج من الدوائر الضيقة، من وهم "الهويات القاتلة"، ومن أوهام حيازة الحق المطلق. لأن العزلة تفرض على صاحبها طوقاً من العتمة، تجعله لا يستمع إلى من يخاطبه من خارج سياقه الفكري. ساعتها، تتحول الأدلوجة إلى صنم، وتستحيل الأفكار إلى نصوص ذات بعد رسوخي ثبوتي، ويتحول من يحملها من رجال إلى أيقونات تحترق أصابع من يلامسها. هو جحيم "الجهل" والنار التي يقبع فيها المنغلق على ذاته، المتجاهل لكل ما حوله من أفكار، المعتقد أن الإنسانية توقف دولابها عن الدوران عند حدود متون كتبه الصفراء، وأفكاره المغبرة!. "استعداء الآخر" الذي حذر منه الملك الراحل، يعني أن لا نحقد أو نستعلي، وأن ننظر إلى البشرية بعين المساواة، بعين مدنية بحتة، لا تفرق بين دين، وعرق، ولون، ولسان. لأن الجميع يمتلكون ذات الحقوق التي أقرتها المواثيق الدولية ومنظومات حقوق الإنسان، وكذلك ضمنتها القيم الأخلاقية الكبرى قبلها. رفض "استعداء الآخر" سيقود تلقائيا إلى التصالح معه، والتداخل والتبادل الثقافي والاقتصادي والاجتماعي. أي أن الثقافات ستكون في حالة تعارف وحوار دائم، يضيف فيها كل طرف إلى الآخر، وبهذه الطريقة تتأسس الثقافات الكبرى، التي ترفدها عشرات الثقافات الفرعية. وعليه، فإن محصلة ذلك هو تقليل الشجارات والصراعات بين الدول والمجتمعات، والدفع بالبشرية شيئاً فشيئاً نحو السلام والاستقرار، بعيداً عن جنون الحروب وشلالات الدماء المهدورة!. إن الإشكالية تكون عندما نعلي من شأن الثقافة "الفرعية"، ونجعل منها ما يشبه "الهوية النهائية"، فيما هي مجرد جهد بشري، قد يكون بدائياً، أو خاطئاً، أو في أحسن الأحوال متناسباً مع زمان ومكان معين، لا يصلح لأن يعمم كنموذج جاهز، تنمط من خلاله المجتمعات!. الحوار الوطني، حوار المذاهب، حوار الأديان، برنامج الابتعاث، كلها مشروعات سعى من خلالها الملك عبدالله بن عبدالعزيز إلى أن يخرج المجتمع من ثقافة الرؤية الأحادية، موجها رسالة مفادها أن التعدد وإبراز مكونات المجتمع المختلفة، تحت سقف القانون والدولة الوطنية، هو أمر صحي، يصب في تدعيم استقرار مدنية الدولة، ويدعم حيوية المجتمع، وليس أمراً مسبباً للفرقة والتحارب، كما يتوهم البعض. المشاريع سابقة الذكر، يجب أن لا تكون شيئاً من الماضي، بل، من المهم العمل على ترسيخها في هياكل الحكومة والمجتمع، وتطويرها بما يخدم مستقبل الأجيال القادمة، وهي الأجيال التي تختلف في تفكيرها وأسلوب حياتها عن سلفها من الآباء والأجداد. إن "المسؤولية المشتركة بين الجميع تفرض على كل مسؤول تقلد أمراً من شؤون هذا الشعب الكريم مسؤولية القيام بأمانته، واضعاً نصب عينيه بأنه خادم لأهله وشعبه، وما أعظمها من خدمة إذا توشحت بالأمانة والإخلاص، والتفاني والعطاء والتواضع"، كما قال الملك الراحل، وهي المسؤولية التي على صاحب المسؤولية أن يعي أن الوقت أمامه متسارع، والأمم في سباق نحو الحداثة والتقدم العلمي، فإما أن نكون ضمن بناة الكوكب وإعماره بالخير والمكتشفات العلمية، ورفده بالأفكار التنويرية، وإلا فإن المجتمع سيعاني من التقهقر الفكري والعلمي، وهو ما لا يريده عاقل!. *نقلاً عن "الرياض"