من صناعة الغلاّيات والدوارق الزجاجية (تسخدم لقياس حجم السوائل) التي تزود بها المعامل الطبية، انتقل مصريون إلى صناعة المقتنيات الزجاجية اليدوية في محاولة منهم لإحياء تلك الصناعة التي برع فيها المصريون القدماء وتواجه حاليا شبح الاندثار. في منطقة المنيب جنوبي محافظة الجيزة المجاورة للعاصمة القاهرة، تقبع ورشة “سيد بيركس”، إحدى أقدم الورش التي تحولت من صناعة أدوات المعامل الطبية إلى صناعة المقتنيات الزجاجية اليدوية. داخل الورشة الصغيرة يحول العمّال المهرة قطع الزجاج الصماء، التي تتخذ شكل أنابيب دائرية، إلى مقتنيات فنية. في البداية يتم تحديد نوع المنتج المراد تصنيعه وحجمه وشكله لاختيار قطر الأنابيب الزجاجية التي تناسبه، ثم يبدأ العامل في صهرها على النار لتسهيل تقطيعها. ويتطلب صهر الزجاج بهذه الطريقة استخدام مشعل نار موصل به ثلاث وصلات، الأولى تضخ الغاز والثانية توفر الأوكسجين والأخيرة تضغط الهواء لمضاعفة قوة النار كي تتمكن من صهر الزجاج فيسهل تشكيله.
عملية طلاء التحفة الزجاجية بالألوان قبل وضعها في الفرن
في هذه المرحلة يرتدي العامل نظارة خاصة لحماية عينيه من لهيب النار، ثم يبدأ في تحريك قطعة الزجاج بيده فوق النار بحركات رشيقة، لتتوزع النار بشكل متساو على جنبات القطعة الزجاجية المراد تشكيلها. بعد ذلك يشرع العامل في النفخ بفمه داخل القطعة الزجاجية كي يتوزع الهواء في أركانها وتتشكل، فإذا كان المستهدف مثلا هو صناعة مقتنيات زجاجية على شكل فيل يطيل النفخ حتى تتكور القطعة، أما إذا كان المراد هو تصنيع قطعة زجاجية طويلة فيتم النفخ فيها وهي في وضع رأسي لتأخذ شكلا مستطيلا في النهاية. ثم تأتي مرحلة طلاء المقتنيات الزجاجية بالألوان، قبل وضعها في الفرن على درجة حرارة 60 مئوية ليتم تنقية اللون من الشوائب ويظهر بشكل صاف. وأخيرا يتم تطعيم المقتنيات بماء الذهب لمضاعفة قيمتها وتوضع في الفرن مرة أخرى، وبعدها تصبح جاهزة للبيع إلى المتاجر التي تبيع مثل هذه المقتنيات الزجاجية اليدوية. ومن أبرز المقتنيات الزجاجية التي تصنعها الورشة مصنوعات على شكل فيلة وشمعدان وزجاجات عطر وأطقم لتقديم الشاي والقهوة والعصائر أو لتزيين منازل العروس. سيد بيركس، صاحب ورشة اكتسب اسم شهرته من صناعته للتحف اليدوية من زجاج “البيركس”، يقول “توقفت عن نشاط تصنيع أدوات المعامل الطبية، وبدأت عام 1985 في تصنيع المقتنيات الزجاجية بعد فكرة راودت أحد العاملين لدي بتصنيع زجاجة عطر فارغة على الطراز الفرعوني، ثم عرضها في منطقة الحسين السياحية بالقاهرة، حيث يتكدس السياح”. وعن النتيجة يتابع بيركس قوله “بالفعل لاقت الفكرة رواجا كبيرا وأقبل السياح على شرائها، فبدأنا في تطوير تصميمها، وتصنيعها من أجود الخامات الحديثة، في محاولة لاستدعاء التراث القديم وربطه بالطراز الحديث”. ويرى أن “العامل المشترك بين تصنيع أدوات المعامل الطبية والمقتنيات الزجاجية هو القدرة على تحويل الزجاج إلى مادة سائلة قابلة للتشكيل. والخامات التي تقوم عليها هذه الصناعة مستوردة كلها، فالزجاج مستورد من التشيك والألوان من ألمانيا، أما ماء الذهب الذي تزين به المقتنيات الزجاجية فمستورد من تركيا”. ويمضي بيركس قائلا “إن مصر هي أول دولة في العالم تصنع من الزجاج الخام منتجا يستخدم بشكل عملي ويصلح كقطعة ديكور في آن واحد، وذلك في العهد الفرعوني (قبل آلاف السنين)، ثم تناقلتها عنها باقي دول العالم، منها سوريا وتركيا اللتان أصبحت لديهما صناعة زجاج ضخمة”.
قطع الزجاج الصماء تتحول بعد صهرها إلى تحف فنية
“لكن صناعة المقتنيات الزجاجية في مصر تتميز بكونها يدوية وعلى درجة عالية من الاتقان والحرفية، ما يمنح المقتنياتة روحا فنية خالصة لا تتوفر في نظيرتها التي تنتجها صناعات ضخمة وآلات عملاقة”، حسب صاحب الورشة. ومحاولا تأكيد وجهة نظره، أضاف بيركس أن “رجال أعمال صينيين كانوا يرسلون مندوبيهم لشراء المقتنيات الزجاجية اليدوية من مصر، وإعادة تسويقها في الخارج، وهو ما تكرر معنا في ألمانيا وأميركا واليابان ودول آسيوية أخرى”. وقال بيركس : الآن أصبحنا نشارك في معارض خارج مصر لتسويق منتجاتنا، لذلك سنقيم خلال الشهر الحالي معرضا في دولة البحرين، وفي يونيو القادم سنقيم آخر في قبرص. وعلامات الحزن مرتسمة على وجهه، قال صاحب الورشة “إن خطر الاندثار يهدد هذه المهنة العريقة بسبب ركود حركة السياحة منذ الثورة، وهروب العمالة المتخصصة في تصنيع المقتنيات الزجاجية اليدوية إلى مهن أخرى بحثا عن مصدر ثابت للزرق”. وختم بيركس حديثه بإيضاح ما تواجهه مهنته من صعاب قائلا “لدي أكثر من ورشة كان في كل منها 18 عاملا، أما الآن ففي كل منها ثلاثة عمال فقط بسبب تراجع حركة السياحة في مصر، ومن ثمة انخفض إنتاجي بنسبة الثلث وتقلص معه دخلي بالنسبة نفسها. أحيانا يحدث إقبال على منتجاتنا، فنزيد الإنتاج ويرتفع الدخل، وأحيانا أخرى يحدث العكس، وهو ما يسم مهنتنا بعدم ثبات الدخل، فيضطر العمال إلى مغادرتها”.