في الأسابيع الماضية، برهن التغيير الذي حدث في السعودية على أهمية المملكة المترامية الأطراف، وأخواتها الخليجيات، إقليمياً ودولياً، ما يفسّر جانباً من سعي طهران بشكل أو بآخر إلى تطبيع عام للعلاقات مع دول "مجلس التعاون الخليجي" التي يجمعها بها تاريخ وجوار ودين، وعلاقات قربى أحياناً. ذلك أن التقارب بين طهران والغرب، خصوصاً "الشيطان الأكبر"، مهما بدا غضاً للطرف عن سلوكها "المليشياتي" في المنطقة، إلا أنه يصعب تصديق وضعه في كفة ترجح على أخرى تمثلها السعودية بثقلها الإقليمي والدولي، ناهيك عن دول الخليج مجتمعة. وربما هذا الانطباع هو ما جعل الإيرانيين حتى المحافظين يحاولون الإبقاء على شيء من "شعرة معاوية" مع الرياض، على رغم حدة الخلاف والصراع الاستراتيجي بين البلدين في ملفات لا مجال فيها للتلاقي أو أنصاف الحلول في مثل لبنانوسوريا، والعراق في بعض الأحيان، واليمن الآن. هذا الاعتقاد، يتعزز الآن أكثر بعد رغبة الإيرانيين والأمريكيين معاً في إنجاز وفاق لا يبدو أن أياً من الطرفين مستعد للتفريط فيه، بعدما قارب بلوغ مداه، إلا أن السؤال الحرج جزماً للأطراف الغربية والإيرانية والخليجية على السواء، هو أي نهج على إيران أن تسلك، إن هي غدت حليفة لأمريكا؟ فإيران التي امتهنت سياسة فرض ما تريد باستخدام المليشيات وأشباه المرتزقة في ملفات الإقليم، هل هي مستعدة للانكفاء إلى دورها الطبيعي، دولة إقليمية ذات أهمية استراتيجية، من دون أن تغيّر في معادلاتٍ أو تركيب من أي نوع، استقر عليه العرف السياسي الداخلي والإقليمي لدول معينة مثل البحرينولبنان؟ وإن هي لم تفعل، فهل هي على الأقل ستكتفي بما أخذت، على أن لا تلغي مآرب الأطراف الآخرين، داخليين كانوا أو خارجيين، في دولة مثل العراق، يجري فيها تهجير وتصفية عرقية، تؤذي الداخل والإقليم؟ وهل الخليج الذي اعتاد أن يكون الآخذ بزمام المبادرة في ملفات الإقليم، وصاحب الجذور الأعمق قومياً ومذهبياً، سيرضى بالتكافؤ أو حتى بدورٍ مساوٍ لطهران أو أقل منها، في التأثير على عمقه الاستراتيجي الطبيعي، في مثل اليمنوسورياوالبحرين بعد خسارة العراق؟ وبالنسبة إلى الغرب، ممثلاً بأمريكا، كيف بوسعه أن يبقي على علاقة وثيقة بين طهران والخليج في وقت واحد، وهما اللذان لا تحصى نقاط التضاد بينهما؟ خصوصاً وأن الطرف الخليجي يتهم الأمريكي علانية بأن الوفاق مع إيران ماضٍ على حساب خطوط الخليج الحمراء، فما كفت أمريكا يد إيران في العراق ولا سوريا ولا البحرين. الأرجح أن الوفاق الأمريكي الإيراني سيتبعه آخر خليجي - إيراني أيضاً، لكن أحداً لا يمكنه أن يجازف بالقول في أي صيغة سيكون. ذلك أن دول الخليج وأختها الكبرى السعودية، لا تسلك نهجاً مليشياوياً أو طائفياً في اهتمامها بالشأن الإقليمي، وإنما تقوم بأدوارها تحت شرعية إقليمية ودولية، فتدعم قوة لبنان عبر تسليح جيشه الوطني، والبحرين ب "درع الجزيرة" الذي تحكمه قوانين ذات مرجعية. وفي العراق عبر تحالف دولي عسكري مقنن. أيضاً دول الخليج وخصوصاً السعودية، تحارب الإرهاب السني بلا تسويف أو تردد، قناعة منها بأنه عدو الجميع. طهران تقف على النقيض من ذلك تماماً، فما لم تأخذه باليد اليمنى من "الإقليم" بالطرق المشروعة، تأخذه باليسرى عبر الوكلاء والمليشيات وفرق الرعب. أما الإرهاب السني (التكفيري) الذي تعلن محاربته، فإنها فقط وظفته وعقدت معه صفقات معروفة، بدليل إقامة عناصر كثيرة من "القاعدة" في إيران، كما أن أياً من مصالحها لم يمس يوماً. أما الإرهاب الشيعي، فإن طهران لم تعترف به يوماً، فضلاً عن أن تحاربه، بل تجاهد في تجميل منظماته القابلة للتجميل علناً مثل "حزب الله" و"الحوثيين" و"جيش المهدي" و"فيلق بدر" (كلهم أعضاء في حكومات بلدانهم)، فيما تمارس لعبة "لم آمر بها ولم تسؤني"، أو "أنا وابن عمي على الغريب"، على ما يصعب تجميله من فرق الموت الأخرى. وسط هذا التناقض في السلوك والمصالح، في مشهد أكثر ما يختصره اليمن حالياً بعد انقلاب "الحوثي"، لا ندري كيف يمكن إقناع الأوطان العربية الحليفة لأمريكا بسلامة نوايا الحلف الجديد؟ ناهيك عن دعوتهم إلى الدخول فيه ومباركته يوم تضع عليه واشنطن لمساتها الأخيرة.