تُشكِّل دعوات جماعة الإخوان المسلمين وبعض التيارات الإسلامية وغير الإسلامية المتحالفة معها في الساحة السياسية للخروج في مظاهرات حاشدة بالذكرى الخامسة لثورة الخامس والعشرين من يناير 2011، فرصةً للتأمل في دوافع الأغلبية من المصريين، إما للتفاؤل بإمكانية تكرار المحاولة الناجحة التي أسقطت الرئيس السابق حسني مبارك، وإما بالشعور بالخوف والتشاؤم في أوساط من ربطوا بين ثورة الخامس والعشرين من يناير وبين الفوضى وغياب الأمن وتدهور الأوضاع الاقتصادية لاحقًا. من الناحية المبدئية، يُمكن القول إن فكرة "دورية التاريخ" غائرة بعمق في التكوين الإنساني، وتزداد توغلا في المجتمعات التي يلعب فيها الدين دورًا محوريًّا في فهم العالم وتفسير أحداثه ومساراته التاريخية. ويمكن الزعم أيضًا أن إغراء تكرار حدث صاحبته أوضاع سياسية واجتماعية معينة تنفصل تدريجيًّا عن بعضها بعضًا بحيث تصبح استعادة هذا الحدث ليست مرهونة بالأوضاع التي سبق وأدت إلى وقوعه، بل يصبح توقيت وقوع الحدث في الماضي هو المعيار الأهم لإمكانية تكراره مستقبلا. التاريخ الدوري في الفكر الإنساني: لم تمتلك الجماعات البشرية منظومة فكرية لتفسير الأحداث والوقائع التاريخية بشكل علمي قبل أقل من مائتي عام، وحتى بعد أن تطورت العلوم الإنسانية ومن ضمنها علم التأريخ، ظلت الأفكار السابقة على الثورة العلمية هي محرك الوعي لأغلبية بني الإنسان بغض النظر عن الفروقات الثقافية والحضارية، ولعبت فكرة دورية التاريخ -بمعني تكرار حوادثه- دورًا مركزيًّا في الثقافة الإنسانية؛ حيث سادت تمامًا حتى إلى ما قبل بزوغ عصر النهضة في أوروبا في القرن السادس عشر. وكان أفلاطون الفيلسوف اليوناني الشهير قد عبر عن هذا الرأي في محاوراته مع "نيمايوس" في إطار ما خلعته الفلسفة اليونانية من قداسة دينية على الحركة الدائرية عامة وحركة التاريخ خاصة. كما تغذت فكرة دورية التاريخ بشكل ملحوظ على دوافع غريزية لدى الإنسان للخوف من التغيير كونه يرتبط بالمجهول، ويقضي على شعور السكينة الداخلية للإنسان الفرد، كما ارتبطت أيضًا بميل أغلبية البشر للابتعاد عن التفسيرات المعقدة للظواهر الإنسانية والطبيعية، والبحث عن التفسيرات المبسطة ومنها فكرة تكرار التاريخ لوقائعه. وليس بالإمكان تجاهل الدور الكبير الذي لعبته الديانات السماوية في تكريس فكرة دورية التاريخ، فعلى سبيل المثال ما زال حلم عودة المسيح وسيادة السلام والرخاء في العالم يحرك عواطف الملايين على امتداد العالم، ويدفع بعضهم لمحاولة استعجال هذه العودة بتهيئة الشروط التي استنبطها الفقهاء الدينيون لتحقيق هذه العودة، ومنها استخدام العنف، كما هو الحال في أفكار جماعات متنوعة تنتمي للديانات الإبراهيمية الثلاث. جماعة الإخوان وأيديولوجيا ثبات العالم: على الرغم من أن أحد أهم دوافع قيام حسن البنّا بتأسيس جماعة الإخوان المسلمين عام 1928 كان سقوط الإمبراطورية العثمانية والتي ادعت لأسباب سياسية وعرقية أنها تمثل امتدادًا لعصر الخلافة الإسلامية، فإن شخصية البنّا بما حملته في تكوينها من تأثر واضح بأفكار الحركة السلفية كان من المحتم أن تميل إلى فكرة دائرية التاريخ، بحيث يمكن استعادة الحكم الإسلامي في صورته النقية، فيستعيد معه المسلمون ريادة العالم، ويعم العدل والرخاء ربوعه. نزع البنّا نشأة الدولة الإسلامية ونظام الخلافة من سياقهما التاريخي والجغرافي، بل إنه كان مثل كل أصحاب الدعوات الدينية -على اختلاف عقائدهم- في منهجهم الانتقائي الذي يرسم صورة مثالية لتاريخ إنساني هو بطبيعته لا يقبل المثاليات، ومن ثم تمكن من حشد أجيال عدة حول مشروعه، وتكفلت الخصائص التي تُميز أغلبية البشر (من كراهية للتغيير، والارتباط بمشروعات طوباوية تستدعي عودة حقبة زمنية معينة للخلاص من مشكلات آنية) بازدهار الحركة ومشروعها رغم مجافاة هذا المشروع لأدنى مستويات العقل والعلم. كذلك يُمكن القول، إن النزعة السلفية التي كانت جزءًا من تكوين عقلية البنّا وأغلب خلفائه تلعب دورًا إضافيًّا في تسويق فكرة دائرية التاريخ. وقد أظهرت الحركات السلفية التي مارست العنف في عدة بلدان إسلامية مدى خطورة هذا المنهج الذي قد يحول أتباعه من موقف انتظار تحرك القوى الإلهية لخلق هذه الظروف إلى القيام بهذه المهمة بأنفسهم، وقد حدث ذلك بين أتباع الديانات السماوية الثلاث على مدى التاريخ. ويكفي أن نذكر أن الصهيونية الدينية التي شارك أتباعها في ممارسة العنف ضد الفلسطينيين في الأربعينيات تحت مسمى تهيئة الوضع لتحقيق الوعد الإلهي بعودة اليهود إلى الأرض الموعودة، كانوا يقفون في مواجهة نظراء لهم (الحريدييم) الذين كانوا يرفضون القيام بفعل بشري من أجل استعجال الخلاص وتحقيق الوعد الإلهي المقدس. وهو الأمر نفسه الذي حرّك جماعة جهيمان العتيبي لاحتلال الحرم المكي عام 1979 لإعلان قيام الخلافة الإسلامية من داخله، ويذكر الصحفي السعودي ناصر الحزيمي في كتابه "أيام مع جهيمان" أن زعيم التنظيم الذي قام باقتحام الحرم مع أتباعه كان يبحث عن رجل ينتمي إلى "قريش" لمبايعته كخليفه للمسلمين، وأن هذا البحث هو الذي تسبب في تأخير القيام باقتحام الحرم المكي حتى تم العثور على شخص له هذه الصفات. وأخيرًا فإن الجماعة المسيحية التي قادها "مانسون" الذي سمّى نفسه المسيح الجديد في أواخر الستينيات تحولت إلى ارتكاب جرائم قتل لبعض المشاهير في الولاياتالمتحدةالأمريكية تحت مسمى استعادة "الطهارة الأولى للإنسان والطبيعة" تحت وهم إمكانية تكرار حدث ظهور المسيح مجددًا. إن بحث الجماعات الإسلامية عن التواريخ والعناصر والرموز التي ميّزت فترة تاريخية معينة يتطلعون لاستعادتها لكي يُعيدوا إنتاجها أملا في استدعاء الحدث المنشود تختزل في كثيرٍ من المواقف إلى مجرد الاحتفاء بذكرى الحدث ومحاولة تكراره حتى لو لم تكن الشروط الحدية لوقوعه متوافرة، ومن هنا ومن خلال تكوين العقل الجمعي لأتباع جماعة الإخوان والمتعاطفين معها يُمكن فهم لماذا تُراهن جماعة الإخوان على ذكرى 25 يناير القادمة لإسقاط نظام الحكم في مصر كما سبق وسقط مبارك في أعقاب اندلاع الثورة ضده في يناير عام 2011. تمدد أيديولوجية دائرية التاريخ: ليس من الموضوعية في شيء قصر الإيمان بدائرية التاريخ على جماعة الإخوان وحدها، أو الجماعات الدينية المتحالفة معها، إذ تمتلئ صفحات وسائل التواصل الاجتماعي مثل الفيس بوك وتويتر بدعوات وأمانٍ مشابهة من تنظيمات علمانية يسارية أو من أشخاص عاديين يدعون للنزول إلى الميادين في ذكرى 25 يناير، ويحلمون بتكرار اللحظة التي ميزت النزول الكثيف ضد الرئيس السابق حسني مبارك، كما تجاوزت هذه الدعوة نطاقها إلى شخصيات إعلامية اعتبرت نفسها الأكثر حرصًا على قيم ثورة يناير. فعلى سبيل المثال، كتب وائل قنديل أحد المتحالفين مع الإخوان في صحيفة "العربي الجديد" في مطلع يناير 2016 منددًا بمن كانوا ثوريين وأصبحوا أداة لتخويف الناس من الثورة، بقوله: "الآن أيضًا تسمع وتشاهد العجب العجاب من ثوار متقاعدين، ينفذون ما يريده السيسي، ويخوّفون الناس من التظاهر، فلا تلتفت واستحضر ثورتك وميدانك في يناير العظيم". واعتبر الكاتب أن تخويف الناس من النزول في 25 يناير هو خيانة للثورة التي يُمكن استعادتها في هذا اليوم. وكما تزايد إحساسُ المناهضين للرئيس السيسي بالتفاؤل بإمكانية تكرار الثورة ضد نظام الحكم في نفس ذكرى اندلاع ثورة 25 يناير، انتشرت المخاوف في أوساط القلقين على الاستقرار الحرج الذي تعيشه البلاد من هذه الدعوات، ومما قد يحدث في هذا اليوم، الأمر الذي يؤكد طبيعة العقل الجمعي لدى الأغلبية من المصريين. وقد أدى حديث الرئيس السيسي عن خطورة الدعوات للتظاهر في هذا اليوم على أمن واستقرار البلاد جنبًا إلى جنب مع الإجراءات الأمنية المشددة استعدادًا لهذه الذكرى - إلى مد العقلية الجمعية للمصريين بأسباب إضافية للتفاؤل هنا أو للتشاؤم والخوف هناك. على ماذا يُراهن الإخوان؟ تبدو دعوات بعض قيادات الإخوان للتظاهر في 25 يناير واستخدام العنف ضد قوات الشرطة -إن أمكن- متصادمة مع جملة من المعوقات الواضحة لإنجاح هذه الدعوات، أهمها: 1- تمر جماعة الإخوان بحالة انقسام على مستوى القيادات في الخارج والداخل حول الأسلوب الذي يجب أن تنتهجه الجماعة في مواجهة الدولة، كما أن اعتقال المئات من قياداتها الوسطى تنفي إمكانية تحقيق حشد ناجح في هذا اليوم. 2- فقدت جماعة الإخوان تعاطف العديد من الدول الأوروبية التي كانت تدعمها وتؤيد مواقفها الداعية إلى إسقاط ما تسميه بالنظام الانقلابي في مصر، وكان التقريرُ البريطاني الذي صدر مؤخرًا قد شكك في الخطاب السلمي الذي تدعي الجماعه تمسكها به، ومن ثمَّ فإن دعوة بعض القيادات للتظاهر والحض على الاشتباك مع قوات الشرطة ربما تزيد من شكوك الدول الغربية تجاه الجماعة، ويُمكن أن تؤدي إلى مزيدٍ من التضييق على أنشطتها في تلك البلدان. 3- إعلان العديد من الجماعات السياسية التي كانت تؤيد مثل هذه الدعوات في السابق عن عدم استعدادها لتلبية دعوات التظاهر من جانب الإخوان حتى لا يتم التعامل معها -سواء على المستوى الرسمي أو الشعبي- على أنهم جزء لا يتجزأ من حركة الإخوان. 4- شعور الأغلبية من المصريين بخطورة دعوات الإخوان للتظاهر، واعترافهم صراحة بأنهم يهدفون لإسقاط النظام، في ظل ما يرونه من كوارث حاقت بالبلاد التي سارت على هذا النهج، خاصةً سوريا وليبيا. في ظل هذه المعطيات فإن دعوة الجماعة إلى التظاهر، والدخول في مواجهة عنيفة مع مؤسسات الدولة تبدو مفتقرة إلى الرشد، ولكن الجماعة لم تعد تملك سوى الاستمرار في هذا النهج للحيلولة دون تفككها إذا ما ترددت في دخول هذه المواجهة؛ حيث من المتوقع أن تتزايد حدة الانشقاقات داخلها في هذه الحالة، كما يمكن أن تترك أغلبية القطاعات الشابة الجماعة بسبب ما تراه من سياسة متخاذلة في مواجهة الدولة. ويبقى أن بعض الأصوات داخل الجماعة تُراهن على إمكانية الحشد في هذا اليوم خلف شعارات عامة تتناول الأزمة الاقتصادية التي تضرب قطاعات عريضة من الناس، فضلا عن إمكانية أن تؤدي المصادمات العنيفة مع الشرطة وما سيستتبعه ذلك من سقوط ضحايا إلى اشتعال الغضب في أوساط بقيت على الحياد قبل دعوات التظاهر، على أمل أن تتسع حركة الغضب لاستعادة لحظة سقوط الشرطة ثم نظام الحكم كما حدث في يناير 2011.