على الرغم من الترحيب الواسع الذي حظي به قرار فخامة رئيس الجمهورية المشير / عبدربه منصور هادي بنقل صلاحيات و سلطة البنك المركزي من صنعاء إلى عدن بين أوساط العامة و النخب إلا أن هناك من عبر عن مخاوفه من التداعيات التي يمكن أن تصاحب هكذا قرار و هو ما دعاني إلى الكتابة حول هذا الموضوع و تقديم رؤية متواضعة من وجهة نظري التي ربما قد يراها البعض صائبة و يراها آخرون عكس ذلك و تلك هي الطبيعة البشرية التي نحترمها و نؤمن بها. و سوف استعرض في رؤيتي هذه أهم ما جاء في ذلك القرار و ما هي الدوافع و المبررات التي تجعلنا ننحاز نحو صوابه بل و نراه أنه استراتيجي و تاريخي و هام و من شأنه أن ينهي هذه الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي يعاني منها الاقتصاد و ينهي معها معاناة الناس و يعجل أيضا بإنهاء تلكم الحرب الدائرة و يدفع قدما نحو تحقيق السلام .
و لكن حتى نكون صادقين فإن ذلك كله حتى يحدث و يتحقق يستوجب في المقابل نجاح مهمة النقل و إعادة الهيكلة لإدارة البنك المركزي التي شملها القرار و هو الأمر الذي يدل بما لا يدع مجالا للشك بأن القرار كان مدروسا و بعناية فائقة.
لماذا نقول ذلك ؟
لكي نجيب على هذا السؤال أيها الأعزاء دعوني أتحدث و بشكل موضوعي و علمي عن ذلك و أسقطه على واقعنا الاقتصادي و السياسي و الاجتماعي.
من المعلوم أن سياسة البنك المركزي في الآونة الأخيرة شهدت حالة من عدم الاستقرار النقدي و ذلك بسبب التدخلات المباشرة لمليشيات و قوات المخلوع و الحوثيين الانقلابية في سياسته الداخلية مما أدى إلى الإخلال بأهم المتطلبات الواجب توفرها لنجاح البنك المركزي و أهم الشروط الموضوعية للقيام بأهم واجباته و هي الحفاظ على الاستقرار النقدي و هو شرط الاستقلالية و نعني بالاستقلالية هنا هي حرية البنك المركزي في رسم و تنفيذ سياسته النقدية دونما خضوع للاعتبارات أو التدخلات السياسية. و لا تعني الاستقلالية بأي حال من الأحوال الانفصال التام بين البنك المركزي و الحكومة أو انفراد البنك المركزي في تحديد الأهداف النهائية للسياسة النقدية و هو ما حاول الانقلابيين خلال الفترة الماضية أن يصنعوه بتدخلاتهم المباشرة . بل أنه يجب الحفاظ على أكبر قدر ممكن من الانسجام و التناغم بين السياسة النقدية التي يمثلها البنك المركزي و السياسة المالية التي تمثلها الحكومة لبلوغ تلك الأهداف و التي أهمها على الإطلاق الحفاظ على الاستقرار النقدي و هو ما لم يحدث للأسف بسبب تلك التدخلات التي قامت بها المليشيات في صنعاء.
و من هنا تأتي تلك الأهمية التي أشرنا إليها في اتخاذ ذلك القرار الذي يهدف إلى تحقيق الاستقرار النقدي و الذي يمثل أهم المعضلات التي تواجه الاقتصاد المحلي في الآونة الأخيرة. و من الملاحظ أعزائي أننا نتحدث في صميم مهام و عمل البنك المركزي لذلك من الواجب علينا عند الحديث عن أهمية قرار نقل البنك المركزي إلى عدن أن نتعرف قبل ذلك على أمرين مهمين منهما تأتي أهمية ذلك القرار و هما : أولا : مهام البنك المركزي.
تتمثل مهام البنك المركزي في عدة أمور يستوجب عليه القيام بها أهمها :
1- إصدار النقد و تنظيمه. 2- إدارة الاحتياطات الأجنبية. 3- العمل كبنك للحكومة . 4- العمل كمستشار اقتصادي و مالي للحكومة . 5- العمل كبنك للبنوك المرخصة و المؤسسات الإقراض المختصة. 6- مراقبة البنوك و تنظيم أعمالها .
و لكي يتم الحديث عن أهمية كل واحدة من هذه المهام و مدى التأثير الاقتصادي و السياسي و الاجتماعي الذي بإمكانه أن يتحقق متى ما استطاع البنك المركزي من تأدية جميع تلك المهام باقتدار سيتطلب الأمر منا إلى موضوع بحث في جميع تلك القضايا التي تتناولها تلك المهام و هو ما لا يمكن طرحه هنا و لكن بإمكانك عزيزي القارئ أن تستنبط تلك الأفكار و الحقائق التي ربما تكون مذهلة عندما نرى مدى تأثير صلاحيات و سلطة البنك المركزي في التحكم بهكذا أمور و قضايا و ما لذي يمكنه أن يحدث عندما تكون تلك السلطات و الصلاحيات في أيدي العابثين . و ربما قد يظهر لك جليا أيضا لماذا الحكومة طيلة تلك الفترة بدت عاجزة و فاشلة بالنهوض بالاقتصاد الوطني و ذلك لعدم قدرتها على خلق ذلك الانسجام و التناغم بينها وبين البنك المركزي في صنعاء و لاتساع الهوى فيما بينهما .
و هذا ما استوجب من فخامة رئيس الجمهورية باتخاذ هذا القرار الذي يأتي في الطريق الصحيح نحو إنقاذ ما يمكن إنقاذه اقتصاديا و من ثم العمل على النهوض به من جديد.
و قد ظهر ذلك جليا في تصريحات دولة رئيس الوزراء الدكتور / أحمد عبيد بن دغر يوم أمس حينما طمأن المواطنين بأن الحكومة ستكون قادرة على الإيفاء بتعهداتها و سداد الديون الداخلية و الخارجية و أن القرار جاء بتنسيق دولي و إقليمي.
ثانيا : أهم متطلبات نجاح ذلك القرار و نجاح البنك المركزي في عدن مستقبلا.
تأتي متطلبات نجاح أي من البنوك المركزية في أي دولة من دول العالم مقترنة بمدى قدرة تلك البنوك في تأدية مهامها و تحقيق أهدافها. و لعل أهم تلك المهام و الأهداف على الإطلاق هي الحفاظ على الاستقرار النقدي و انخفاض معدلات التضخم و ارتفاع معدلات النمو الاقتصادي. و لتحقيق ذلك فهناك مجموعة من العوامل و الشروط الذاتية و الموضوعية يجب توفرها :
الشروط الذاتية أو المؤسسية تتعلق بهياكل هذه البنوك و تطورها و نوعية الموارد البشرية و غيرها من العوامل الخاصة.
الشروط الموضوعية : قد تطرقنا سابقا إلى أبرزها و هو درجة استقلالية البنوك المركزية و فسرنا ما المقصود بالاستقلالية و لذلك فإننا سنعرج سريعا على بقية تلك الشروط و هي كالآتي :
المصداقية: فإنها تمثل ركيزة أساسية تساعد في تحقيق السياسة النقدية لأهدافها. ونعني بالمصداقية التزام البنك المركزي باتخاذ الإجراءات اللازمة لتحقيق أهداف السياسة النقدية، ودون تهاون. ولا تثبت المصداقية إلاّ عبر الزمن حيث يكرّر البنك اتخاذ الإجراءات نفسها إذا ما واجه ظروفاً معينة مرة أخرى ولا يتراجع عن تلك الإجراءات إلاّ بتحقق الهدف. ومما لا شك فيه، أن اكتساب البنك المركزي للمصداقية يجعل الفعاليات التي تتأثر بقراراته (الجهاز المصرفي مثلاً) تسير بالاتجاه المطلوب بشكل أسرع. كما أن استقلالية البنك المركزي تعتبر ركيزة هامة لتنفيذ سياسة نقدية أكثر فاعلية وتسرع في تحقيق الأهداف، الأمر الذي يعزّز من مصداقيته.
أما شفافية السياسة النقدية: فتعني اطلاع الجمهور، بشكل واضح وفي أوقات منتظمة، على توجهات وإجراءات السياسة النقدية. حيث أن معرفة الجمهور وإدراكهم لأهداف وإجراءات هذه السياسة وأدواتها وتمكينهم من الحصول على المعلومات المطلوبة في هذا الخصوص سيعمل على زيادة فعاليتها وتمكين الجمهور، في ضوء ذلك، من بناء قرارات سليمة، فضلاً عن خلق مزيد من الالتزام من قبل البنك المركزي للوفاء بهذه الأهداف.
وفي الوقت الذي اتسعت فيه دائرة الاهتمام بالحكومة المؤسسية واستقلالية البنك المركزي، فقد حظيت قضية "مساءلة" البنك المركزي بنفس الاهتمام أيضاً، فكلما تمتع البنك بمزيد من الاستقلالية كلما ازدادت الحاجة إلى مساءلته على سياساته والنتائج التي تتمخض عنها. وذلك استناداً إلى مسؤوليته تجاه تحقيق الأهداف التي ينص عليها قانونه. أما الجهات التي يكون فيها البنك مسولا أمامها فهي متعددة ومنها: البرلمان، بصفته ممثلاً للشعب، ووسائل الإعلام والأسواق المالية وذلك وفق الآلية أو الأسلوب الذي ينص عليه القانون.
و بعد كل هذه الاستعراض في هذه الرؤية المستقبلية المتواضعة في مدى صواب قرار نقل البنك المركزي إلى عدن و التي وضعتها بين أيديكم فإنه ربما قد يتضح لك عزيزي القارئ بأن القرار فعلا كان مدروسا عندما أخذ بأسباب النجاح الذاتية و يتطلب الأمر أيضا تهيئة و تطبيق شروطه الموضوعية و أن دوافع اتخاذه أيضا كانت مشروعة و واضحة لتحقيق أهداف إستراتيجية على المدى البعيد و أهداف مرحلية و آنية على المدى القصير.