يوما ما، كنا نعتقد أن سعادتنا ستتحقق حالما نطرد الاستعمار الغربي. لكن من الواضح أن معظم الأقطار العربية، بعد مرحلة تخلصها من الاستعمار المباشر ونيلها (الاستقلال)، عاشت جملة من الصراعات والتناقضات والأزمات التي دفعت بكثير من أبنائها إلى الاستغراب والاندهاش والإحباط والتساؤل عمّ إذا "كان رحيل الاستعمار مبكرا). فحتى في الجزائر، التي قدمت مليون شهيدا لطرد الفرنسيين، هناك من يضع علامة استفهام حول مدى "وطنية" النظام الذي جاء بعد الاستقلال. وحتى الروائي اليسار الجزائري الطاهر وطار، صاحب رواية (اللاز)، انتهى به الأمر في روايته (تجربة في العشق، سنة 1988)، إلى نقد شرعية الثورة والسلطة القمعية والوصولية والانتهازية التي تحكم الجزائر منذ الاستقلال، وذلك في صياغة سردية أدبية لم تتهيب من أي محظور سياسي. وحينما يتندر بعض الجزائريين على وضعهم يحكون أن رجلا تقياً ورعاً توفاه الله وأدخله الجنة، وعندما اقترب التقي من باب الجنة وجد حوله كثيرا (برشة) من الناس (بالزاف)، ومن بينهم عدد كبير من قيادات الثورة الجزائرية بمن فيهم بن بلا، وحينها استعاذ الرجل بالله وطلب من مرافقيه أن يهدوه إلى باب النار! وفي بلادنا صدرت بعض النصوص الأدبية التي تنتقد صراحةً الوضع الذي آلت إليه الأمور في عدن منذ الاستقلال، قرأت منها: رواية (ستيمر بوينت) لأحمد زين الصادرة عن دار التنوير – بيروت قبل عامين. ولكن لن يكون حديثي هنا عن النصوص الأدبية. بل سأكتفي بوضع بعض التساؤلات التي جاءت في كتابات اثنين من أبرز الأكاديميين، وهما أ.د. سعيد عبد الخير النوبان وأ.د. أحمد علي الهمداني، وذلك بهدف –كما يقول الأستاذ الدكتور سعيد النوبان "أن يكون ذلك منطلقا وبداية لنقاش علمي جاد تتبلور من خلاله رؤية حقيقية تجاه الاستعمار وماهيته وما خلفه من تدمير نفسي واقتصادي واجتماعي وثقافي، وما ألحقه من تمزيق لوحدة بلادنا وتباعد وتناحر بين الأشقاء". (مجلة العلوم الاجتماعية والإنسانية، جامعة عدن، السنة الثانية المجلد الثاني العدد الأول سبتمبر 1997، ص10). لقد كتب أ.د. سعيد النوبان في افتتاحية ذلك العدد المكرس لدراسة فترة ما قبل الاستقلال، ما يأتي: "حين بدأت المناقشة لاستطلاع وجهات النظر حول أهمية دراسة الفترة الاستعمارية لعدن لإصدار عدد خاص من المجلة يتناول بالتحليل هذه الحقبة من تاريخنا تعالت من الحناجر عبارات يستغربها الباحث، منها: -لا تنكأ الجراح. -كان رحيل الاستعمار مبكرا، بل وخسارة. -وسمعت من أحد العائدين من المكلا عن صياد سئل عن قيمة كمية من الأسماك، فرد على السائل بالسعر الذي يناسبه. فصاح السائل أن قيمة هذه الكمية أيام الاستعمار لا تتجاوز كذا. فرد الصياد أرجِع الاستعمار وخذها دون ثمن. -وسمعت أيضا أن أحد قادة الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين قد زار سيؤن ذات مرة والتقى بالمزارعين ليحثهم على الالتزام بالمبادئ الاشتراكية (البضاعة الرائجة حينها)، وتحدث بعبارات طالما انتشى بترديدها الكثير من شبابنا حول الاستعمار والامبريالية والنمور الكرتونية... الخ. وظل المزارعون ينصتون حتى أكمل القيادي درسه الجديد، فسأله أحد المزارعين: هل يمكن أن يعود الاستعمار مرة أخرى؟ فاشتط القيادي غضبا بعد أن بحّ صوته من الحديث حول الاشتراكية دون تأثير لحديثه في المزارعين. وبالطبع لا يدرك هؤلاء البسطاء من المزارعين والصيادين أن عقارب الساعة لا تعود إلى الوراء، لكن: -ترى ما سر هذا الحنين إلى ماضٍ لا يشرف أحد المطالبة بعودته؟ -هل هو رد فعل لجريح أو محبط فقد الأمل في قدرة الأنظمة الوطنية على تحقيق ما وعدت به خلال مراحل التحرير؟ هل هو حنين إلى ماض، بعد أن استشرى الفساد والظلم وتكميم الأفواه، التي أصبحت القاعدة، وأصبح الولاء الوطني والنزاهة والعدل بين الناس الاستثناء؟ -هل صحيح أن حكم المستعمر أكثر رحمة وعدلا، بل ونزاهة من الحكم الوطني؟ هذه وأسئلة أخرى يمكن أن تثار للمقارنة بين ماض نحن صنعناه في أوج مجدنا وحقبة استعمارية وسطية كان الاستعمار هو المتحكم والمهيمن خلالها، وحاضر نحاول صياغته على قاعدة قيمنا العربية الإسلامية الأصيلة، بما لا يقصينا عن الواقع العام الذي نعيش فيه، رغم المعوقات التي تشدنا إلى الخلف. إن هذه الظاهرة الشاذة علميا ومنطقيا – إن صحت- بحاجة إلى تفسير نابع من دراسة متأنية متعمقة لأسبابها، مستندة إلى خصائص هذه المجتمعات والمعطيات التي تقدمها وتعكسها علوم الاجتماع والأنثروبولوجيا وغيرها من العلوم السلوكية، وبحيث لا تعتمد فقط على النظريات الغربية، بل على ما يمكن استخلاصه من مفاهيم وتصورات الاستعمار من واقع تجربة مرت بها المستعمرات أو البلاد النامية كما حلا للغرب أن يوسمنا..." (مجلة العلوم الاجتماعية والإنسانية، جامعة عدن، السنة الثانية المجلد الثاني العدد الأول سبتمبر 1997، ص10-11). ويمكننا أن نعثر في كتاب الأستاذ الدكتور احمد علي الهمداني (عدن من الريادة الزمنية إلى الريادة الإبداعية) على كثيرٍ من المعطيات التي تجعلنا نتساءل عمّ كسبناه وخسرناه من الاستقلال. فهو يكتب (ص140) "في عدن كانت هناك "مجموعة من المثقفين ترى أن الاحتلال البريطاني خير من الإمامة من عدة وجوه لا يختلف فيها اثنان على الأقل من وجهة نظر هذه المجموعة". وفي صفحة 122 كتب: "في الحقيقة منح الاستعمار البريطاني قدرا من حرية الحركة في عدة جهات، كانت أهمها الاتجاه الاجتماعي الفكري في البداية، وقد اتضحت معانيه في مسألة التربية والتعليم، وقضية الصحافة والطباعة والمكتبة، ثم تجلت هذه الحرية فيما بعد في اتجاه قيام النقابات العمالية والحركة السياسية، التي كانت نواة الحركة الوطنية اليمنية. لقد شهدت عدن على امتداد ثلاثين عاما على وجه التقريب [قبل الاستقلال] ما يقرب من خمسين صحيفة ومجلة يومية وأسبوعية وشهرية، الشيء الذي عجل بتطور المقالة على تعددها وتنوعها، وساعد على ظهور الأقصوصة في مطلع الأربعينيات، بعد أن ظهرت القصة أو الرواية على يد محمد علي لقمان في أواخر الثلاثينيات وبداية الأربعينيات، كما ظهر في هذه الفترة عدد غير قليل من المجموعات الشعرية والكتابات المقالية التي صدرت في كتب وكتيبات؛ وكان رائد المسرح الشعري في اليمن علي محمد لقمان يخطو خطوات بطيئة، لكنها قوية وراسخة في سبيل قيام مسرح نثري وشعري أصيل في اليمن. ولم يكن ذلك ممكن الوقوع لولا انفتاح عدن على الثقافة العربية والغربية القادمة من مختلف مدن العالم، وهو الشيء الذي حرم منه شمال اليمن إبان الحكم الإمامي. وعلى هذا النحو يبدو التراث الليبرالي عريقا في عدن بما يتيحه من تعددية ثقافية وفكرية وتعددية سياسية ما دام الأمر لا يتعلق بهدم أساسيات السلطة القائمة جملة وتفصيلا، وما دام الأمر يقف عند الإصلاح في الأطر التحتية، ولا يتعدى ذلك إلى الأطر الفوقية في الدولة. ومع هذا فقد كانت مدينة عدن سباقة في خوض تجربة التعددية الثقافية والتعددية السياسية منذ أواخر العشرينيات حتى نهاية الستينيات من [من القرن الماضي]، ... إذ قامت في عدن في هذه الفترة كل الاتجاهات التنظيمية والحزبية والمحلية الوطنية والقومية والأممية، وكان لكل واحد من هذه التنظيمات أو الأحزاب برنامجه وصحيفته التي تعبر عن مواقفه السياسية. ولعل هذا الجو الليبرالي، وهذا المناخ الديمقراطي التعددي هو الذي جعل مدينة عدن مركز إشعاع في الجزيرة العربية مدة طويلة من الزمن". وفي صفحة 237-238، كتب "كان محمد علي لقمان سباقا إلى الدعوة إلى التعلق بأسباب الحضارة الأوروبية الإنسانية. ولم يضع لقمان الحضارة الأوروبية ي مقابلة مع الثقافة العربية الإسلامية، ولم يجعل الواحدة منهما نقيضا للأخرى. وإنما أراد أن يفتح جسورا بينهما تصل الواحدة بالخرى، الشيء الذي عبر عن نفسه في وضوح كامل مع قيام صحيفة فتاة الجزيرة عام 1940، فقد ظهر على صفحاتها منذ مطلع الأربعينيات عدد كبير من القصائد والمقالات المترجمة عن الأدب الغربي، كما ظهرت مجموعة من الكتابات حول هذا الأدب تختلف قوة وضعفا. في الوقت الذي انحصر الفكر اليمني في صنعاء وحضرموت في مجال إحياء التراث العربي وبعث الفكر الديني الصحيح". وبعد، أسال: ما العنوان المناسب لهذا المقال؟