ما أن تُناقش يمني/شمالي في موضوع حق الجنوبيين في الاستقلال، أو حتى عربي، حتى يذكرك فوراً بنموذج جنوب السودان، وكأنه يقول مصيركم الحتمي يا أيها الجنوبيين إذا أستقل الجنوب هو مصير مُشابه لمصير جنوب السودان. وفعلاً؛ جنوب السودان منذ الاستقلال في عام 2011 وهو يعيش أزمات كارثية على جميع المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهذا ما جعل جنوب السودان يتحل المركز الثاني في مؤشر الدول الفاشلة (أو الهشة) لعام 2015، بعد الصومال الشقيق، وبلا شك يستغل الكثيرين هذا الوضع في جنوب السودان للقول ان جنوب إذا استقل سيكون مصيره كمصير جنوب السودان حتماً. طبعاً قبل أن أتجاوز نقطة مؤشر الدول الفاشلة، من يستمع لكلامهم يظن أن اليمن يُصنف بمصاف الدول الإسكندنافية المُتقدمة! بينما هي في حقيقية الأمر تحتل اليمن المركز السابع في مؤشر الدول الفاشلة وليست بعيدة عن جنوب السودان. رغم أن المُقارنة فيها مغالطات كثيرة، فتفاصيل اليمنالجنوبية تختلف بشكل كبير تفاصيل جنوب السودان، من عدة جوانب أهمها أن جنوب السودان دولة خُلقت من عدم في المجتمع الدولي. بينما اليمنالجنوبي كانت دولة مستقلة ذات سيادة تحظى بالاعتراف الدولي وعضو سابق في المجتمع الدولي. أيضاً هُناك مغالطة فعلية هي الحكم بحتمية مصير جنوباليمن إذا ما حقق استقلاله على أرضه، فلا يمكن الحكم بحتمية مستقبل الجنوب، فقد حكمنا نحن الجنوبيين مسبقاُ وبحتمية نجاح مشروع الوحدة ليتحول لاحقاً إلى احتلال همجي متخلف، ومن حلم جميل إلى واقع مرير. كذلك هناك مغالطة ثالثة، هي أن فشل مشروع الوحدة اليمنية بشكل كامل، واستحالة إصلاحها، بل أنني -وغيري الكثيرين- يعتقدون أن محاولة إصلاح الوحدة اليمنية هي كإجراء عملية جراحية معقدة جداً وخطيرة وتأخذ وقتاً طويلا وجهداً كثيراً وبتكلفة عالية، لكن لجثة هامدة، أي أن نسبة نجاحها تساوي 0%، وقد يقول البعض أن مشروع الفيدرالية هو الحل لكنني أقول إن شرعية النفايات المعاد تدويرها أتت بمن قتلوا الوحدة اليمنية، وحولوها لاحتلال وعينتهم في مناصب عليا فكيف سينصفني الجلاد والفاسد والقاتل؟ والأهم في الموضوع، هل الحل هو الاستمرار في الفشل؟ أم المُضي لخلق حل يعطي الجنوبيين حقهم؟ وخلق فرص جديدة لتنمية الجنوبواليمن/ الشمال؟ أيضاً من ناحية حقوقية، لا يمكن منع شعب من حريته واستقلاله وقمع حقه في تقرير مصيره، بحجة أنه سيكون جنوب سودان آخر أي عقل يقبل ذلك؟ وقبل ألا انتقل للجزئية التالية، أود القول إن تجربة الاستقلال ستكون محفوفة بالمخاطر وقد – لا قدر الله – تنهار فعلاً، وتتحول لجنوب سودان آخر، لكن هناك احتمال كذلك واحتمال كبير جداً أن ينجح الاستقلال، وأن تنجح دولة الجنوب في المستقبل. لكن لنتجاوز ذلك كله، ولنطرح السؤال الجدي، هل فشلت كل حركات الاستقلال وتقرير المصير في العالم كما حدث لجنوب السودان؟ ماذا عن التجارب الأخرى الناجحة؟ ولو كانت هناك تجربة واحدة فاشلة هي يعني أن كل التجارب ستبوء بالفشل؟ لنأخذ أولاً تجربة سنغافورةوماليزيا، طردت سنغافورة من الاتحاد الماليزي عام 19655. وكانت مُعدمة فقيرة عديمة الموارد وشعبها يعاني من الأمراض البدنية والثقافية، ومن الفقر والجهل والفساد، لدرجة أن رئيس وزراء سنغافورة آنذاك " لي كوان يو " بكى في مؤتمر صحفي لشدة الأزمة التي وقعت بها بلاده الجديدة؛ فلا موارد لبلاده ولا شعب مؤهل ولا أي شيء. ماليزيا كذلك لم تكن أحسن حالا ففيها أزمات ومشاكل وفقر. لكن عبقرية الرجلين "محمد مهاتير" في ماليزيا و " لي كوان يو" في سنغافورة صنعت ما يشبه المعجزة، فتحولتا من دولتين ناميتين ضعيفتين اقتصادياً، في مراكز متأخرة في مؤشرات التنمية وخصوصاً التنمية البشرية والاقتصادية ، إلى قوى اقتصادية كبيرة ولاعبة أساسية في الاقتصاد الدولية، وقوى وبشرية في الوقت الراهن. وهذه الحالة ربما تقول لنا (رغم اختلاف التفاصيل) أنه: يمكن لاستقلال اليمنالجنوبي عن اليمن/الشمال؛ أن يفتح أفاقٍ جديدة للتنمية، وأن تحفز التحديات التي ستواجه الدولتين لاحقاً على التنافس التنموي بين البلدين. فتحقق الدولتين في المستقبل نجاحات باهرة وتنمية في كافة الأصعدة، وهذا أفضل بكثير من البقاء على الوضع المأساوي حالياً. كذلك تجربة كوريا الجنوبيةوكوريا الشمالية، حيث أن هذين البلدين عاشا في دوامة الحرب الباردة بين الاتحاد السوفيتي سابقاً والصين من جهة كحليف لكوريا الشمالية (الشيوعية)، والولايات الامريكيةالمتحدة كحليف لكوريا الجنوبية من جهة أخرى، على أية حال؛ كانت كوريا الجنوبية تعيش وضعاً اقتصادياً سيئاً، ومستويات التنمية البشرية فيها كانت ضعيفة للغاية، وكانت تعيش تقريباً على المنح الأمريكية المقدمة لها. ولكن من ناتج محلي يبلغ 2,3 مليار دولار أمريكي في عام 1962 قفزت كوريا الجنوبية إلى 680,6 مليار دولار أمريكي حالياً، وهذا ما عاد على دخل المواطن الكوري الجنوبية بالنفع والزيادة فارتفع دخله من متوسط 70 دولار في الستينات إلى 24,000 دولار أمريكي حالياً. هذا بدون الحديث عن احصائيات التنمية المذهلة التي حققتها كوريا الجنوبية (بدون شعار الوحدة أو الموت)، وتميزها الاقتصادي، وتوجهها اللافت نحو الاقتصاد المعرفي. فهل كان انفصال كوريا الجنوبية عن كوريا الشمالية عائقاً لها أمام التنمية، وتحولت لجنوب سودان آخر؟ الإجابة بلا شك لا. لكيلا أطيل، هُناك أيضاً مثال أخير في تايوان التي لديها خلافات معقدة مع الصين الشعبية، تلك الدولة التي حققت نمواً اقتصادياً هائلاً – والصين كذلك طبعاً الثانية عالمياً في الاقتصاد-، واحتلت تايوان مراكز متقدمة في قائمة الدول للناتج الإجمالي، وكذلك هونغ كونج المنطقة الإدارية الخاصة في الصين تحتل المركز الأول في مؤشر الحرية الاقتصادية (تليها سنغافورة التي سبق ذكرها)، وفيها إنجازات اقتصادية هائلة وتعتبر مركزاً اقتصادياً عالمياً. هناك أمثلة أخرى لا يسعني الوقت لذكرها لحالات استقلال أو انفصال باتت بالنجاح والنجاح المبهر، ربما هي رد قاطع على كل من يحكم بقطعية وحتمية تحول اليمنالجنوبية إلى جنوب سودان آخر في استقلاله. بل أن استقلال الجنوب بوجهة نظري يعطي أملاً في وجود تنمية في الجنوب وتنمية في اليمن/الشمال، وتحولهما لدول متقدمة ربما أو أحداهما على الأقل. وأن يعيش الشعبين في دولتين برخاء وتطور وتنمية أفضل من أن يعيشا في دولة واحدة متناحرين متكارهين متباغضين. اعتقادي أن الآية يجب أن تنقلب فبدل أن يضرب المثل بجنوب السودان عند ذكر الاستقلال أو الانفصال، يجب ذكر الوحدة اليمنية الفاشلة عند الحديث عن مشاريع الوحدة في الوطن العربي أو أي بقعه بالعالم، وتذكير الآخرين أن الوحدة التي تبنى بدون أساس قوي، وبدون عقلانية سيكون مصيرها مصير اليمن بعد الوحدة. وأخيراً، كل ما ذكرته أعلاه لا يعني بالضرورة نجاحنا في حالة استقلالنا، فهناك مشوار كبير يجب أن نقطعه لنبني جنوب مستقل متقدم، وهناك ثورة أعظم تنتظرنا هي ثورة البناء والعلم والتنمية.