إلى ضفاف النيل، وأنغام السيدة أم كلثوم، شد اليمنيون رحالهم، إلى مصر، «أم الدنيا» كما يصفها البعض. لا شيء يسيطر هنا في منطقة أرض اللواء والدقي وشارع فيصل سوى اللكنة اليمنية والبن اليمني ومطاعم آل الشيباني. يخيل للبعض أن اليمنيين هنا أبناء بلد، خصوصاً وهم يحاولون جر ألسنتهم بعبارات مصرية تسهل لهم التعامل وتذيب الكثير من الحواجز الاجتماعية. يشاركون المصريين أفراحهم وأحزانهم، ويصيغون في أحيائها الشعبية ذكرياتهم وعاداتهم. هنا في القاهرة والاسكندرية وأسيوط والمنصورة، لن تستغرب وأنت ترى شارعاً تتوسطه لافتة المطعم اليمني أو مطاعم حضرموت أو أن تتناول وجبة غداء مكوناتها الزربيان والكبسة والعصيد وبنت الصحن، ولن تجد نفسك تعاني ويلات الحرب ومرارة الغربة وغباء السياسيين وأنت تستمع للأغاني الصنعانية واللحجية في وحدة فنية عجز السياسيون عن تشكيلها. أكثر من 200 ألف يمني يسكنون القاهرة، منهم من أرسلته الحرب أو المرض، وآخرون يعتبرونها بوابة عبور نحو دول أوروبا، والبعض شكلت لهم محطة استثمارية. «العربي» التقى مجموعة من اليمنيين المقيمين في القاهرة، كشفت عن أوضاع الآلاف من اليمنين وألقت الضوء على بعض جوانب حياتهم وأنشطتهم.
دبلوماسية هشة بعد أكثر من 60 عاماً من دخول اليمنيين بلا تأشيرة، أصبح من الضروري الحصول على تأشيرة دخول مسبقة إلى القاهرة، حسب الاتفاقية التي وقعها نائب رئيس الجمهورية اليمنية حينها، خالد محفوظ بحاح، ورئيس مجلس الوزراء المصري، إبراهيم محلب، في القاهرة، في مارس 2015، وتنص على وجوب حصول الراغبين في دخول مصر على تأشيرة وطلب إقامة قابل للتجديد كل ستة أشهر. وعلى الرغم من بعض الاستثناءات التي أقرت للدبلوماسيين ومن تزيد أعمارهم عن 45 عاماً، فإن البعض واجه صعوبة في التكيف مع هذه الشروط، خصوصاً المرضى ومرافقوهم ومن يتخذون من جمهورية مصر العربية محطة ترانزيت للسفر إلى دول أخرى. «منظمة سام للحقوق والحريات»، استنكرت، في بيان، هذه الإجراءات، المتمثلة في فرض رسوم إقامة وتأشيرة مسبقة للدخول، معتبرة هذه القرارات منافية للمبادىء الأساسية للقانون الدولي. وقالت المنظمة إن العديد من الدول العربية لم تكن تفرض تأشيرة دخول على اليمنيين كشرط مسبق لدخولهم، ومنها مصر، غير أن هذه بعض هذه الدول فرضت تأشيرة دخول مسبقة على اليمنيين إلى أراضيها، معتبرة ذلك «تعسفاً» ويزيد من وجع الحرب على اليمنيين ومعاناتهم، لا سيما في حالات السفر والتعليم. وكانت السلطات المصرية قد أقرت في الرابع من فبراير قراراً يشترط حصول اليمنيين بين 16 و50 عاماً على تأشيرة مسبقة لدخول مصر، وصدر القرار بتواجد وزير خارجية حكومة الرئيس عبد ربه منصور هادي، عبد الملك المخلافي، ووزير المغتربين، علوي بافقيه، اللذين باركوا القرار وسط استياء ناشطي وسائل التواصل الاجتماعية من اتخاذ أي إجراء حيال ذلك، وكانت السلطات المصرية قد أقرت التأشيرة المسبقة على اليمنيين مع بدايات الحرب، واستثنت حينها المرضى ممن يحملون تقارير طبية وكبار السن ممن تزيد أعمارهم عن 45 عاماً وتقل عن 18 عاماً، لتعود أخيراً وتحدث تغييراً في الفئات العمرية المستهدفة.
أريد العودة إلى وطني بملامحه الخمسينية، وكيس أدويته، يقف الحاج سعد عبدالله أحمد، أمام السفارة اليمنية في حي الدقي بالقاهرة، ومعه العشرات من العالقين ومن حولتهم الظروف المالية الصعبة إلى طالبين للمساعدة من أجل العودة إلى الوطن. يقول الحاج سعد: «سعر تذكرة الطيران ارتفع إلى أكثر من ألف دولار، والظروف المعيشية هنا صعبة، نحن عالقون هنا، أصرف شهرياً أكثر من 1500 جنية (170 دولاراً)، خضعت لثلاث عمليات هنا بأكثر من 180 ألف جنية (13 ألف دولار) صرفت كل ما أملك، أنا الآن متعسر ولا أملك شيء، أريد العودة إلى وطني». معه المئات من المرضى القادمون إلى مصر للعلاج ممن تسببت الحرب بمعاناتهم وعملت السفارة على تجاهلهم، ليظل المريض اليمني محل تجاهل عانى منه في وطنه ولحق به إلى غربته. الأطباء اليمنيون في مصر قاموا بتأسيس لجنة طبية لخدمة المرضى اليمنيين، اللجنة تقوم بالتعاون مع أطباء مصريين بمساعدة اليمنيين مجاناً من خلال العلاج والاستشارات الطبية والتنسيق مع المستشفيات والمختبرات ومراكز الأشعة والتحاليل، لتقديم تخفيضات كبيرة لليمنيين العالقين في مصر، في مبادرة منها للتخفيف من معاناة المرضى اليمنيين. الدكتور وليد مثنى، أحد الأطباء العاملين في اللجنة، يقول إن «هدف اللجنة خيري ولا يرتبط بأي مكون سياسي، وإنما هي مبادرة للتخفيف من معاناة اليمنيين في مصر»، وأضاف: «يوجد لدينا زملاء أطباء من دول أخرى أبدوا استعدادهم لمساعدة اليمنيين العالقين وهناك مراكز علاجية أخرى نعمل معها على تخفيض تكاليف الفحوصات والعلاج بنسب كبيرة».
الطلاب: وعود جوفاء يقول عمر حسين، ل«العربي»، إنه منذ ستة أشهر لم يصل له أي مبلغ من مخصصاته «والسفارة اليمنية لا رد لها أمام المظاهرات والاعتصامات والوقفات الاحتجاجية سوى الوعود الجوفاء التي لا تغني ولا تسمن من جوع»، ويضيف أنه بسبب الظروف الاقتصادية وتأخر تسليم المخصصات «انتقل عدد كبير من الطلاب إلى مناطق شعبية بعد أن كانوا يعيشون في مناطق راقية، كالمهندسين والزمالك، وإن البعض منهم انتقل للعيش في مساكن جماعية لتوفير المبالغ المالية التي تصلهم من عائلتهم في اليمن». الوقفة الاحتجاجية الأخيرة التي نظمها الطلاب اليمنيون في مصر عبروا فيها عن استيائهم من التأخير المتعمد في تسليم المخصصات المالية. وحمل البيان الصادر عن الوقفة الاحتجاجية، السفير محمد مارم، والملحق الثقافي، المسؤولية الكاملة حيال ما يحصل للطلاب اليمنيين في القاهرة. وقال البيان: «نحمل السفير الدكتور محمد مارم والملحق الثقافي وطاقم السفارة المسؤولية كاملة حيال ما تعرض له زملاؤنا من طلاب الزمالة من توقيف بسبب تأخر سداد الرسوم المحتجزة لديهم، وكذا تعطيل استلام شهادات التخرج ومناقشة الرسائل بسبب تأخر الرسوم لعدد كبير من الباحثين مطالبين بسرعة حل مشاكل الطلاب وصرف مستحقاتهم وإنهاء مسلسل التسويف والمماطلة في التسليم والاستلام بين الملحق السابق واللاحق وعدم إدخال الطلاب في دوامة هم في غنى عنها». السفارة اليمنية في القاهرة رمت بالمسؤولية على حكومة عدن، وقالت: «اليمن يعيش فى ظروف اقتصادية صعبة بسبب الحرب، وهناك صعوبة فى التواصل مع المسؤولين، نحن نحاول في سبيل تسليم المخصصات للطلاب وصرفنا جزءاً من المخصصات للبعض، ووعدنا الآخرين بمنحهم مصروفاتهم فى أقرب وقت».
قصص نجاح لم يقتصر النجاح الذي حققه كثير من اليمنيين في مصر على رجال الأعمال، فكثيرون هنا حضروا بحثاً عن فرصة عمل جيدة وحياة مستقرة لهم وأطفالهم، امتهنوا الكثير من المهن: سهى الشيباني، نموذجاً، تقول: «بعد أن عجزت عن إيجاد وظيفة، قمت بعمل بسيط، وهو خبز الطاوة اليمني». تضيف: «البداية كانت صعبة ومتعبة، غير أن وسائل التواصل الاجتماعي ساعدتني كثيراً، تطور شغلي بعد ذلك وبدأت شهرتي في الطبخ تنتشر، صار اسم مطبخي معروفاً لدى الكثير من اليمنيين، وزبائن مطبخي من جميع الطبقات الاجتماعية، مسؤولين وطلاب وصحافيين ومرضى». وعن الوجبات التي تقدمها حالياً، تقول: «قمت مؤخراً بفتح مطبخ كبير وأقوم بعمل الوجبات اليمنية، كالزربيان والكبسة والعصيد والشفوت... إلخ». وتضيف أن «مصر بلد جميلة، وأهلها طيبون، وبسرعة حاولت أتلون بلون عاداتهم وتقاليدهم وثقافتهم العامة». محمد الجابري، أربعيني هو الآخر، يعمل هنا منذ ست سنوات في مجال العطارة، يقول: «التجارة في مصر مربحة جداً، يوجد هنا الكثير من التسهيلات فيما يخص البيع والشراء والتعامل مع المواطنين»، ويضيف: «أبيع هنا بعض المنتجات اليمنية كالبن اليمني والعسل واليمني، ولدي الكثير من العملاء اليمنيين الذين يقصدون متجري لشراء أي شيء قادم من اليمن».
مصاهرة تزوج صهيب سليمان، قبل خمس سنوات، من مصرية. هاجر صهيب إلى القاهرة في العام 2011 لتحضير رسالة الماجستير في إدارة الأعمال، ويعمل حالياً في مجال التسويق الإلكتروني. يقول: «أستطيع من خلال عملي على التكفل بمصاريف معيشتي، أعيش هنا وكأنني في بلدي الأم». صهيب سليمان يرى أن «اليمن يدفع فاتورة صراع بين دول مختلفة، وأن هناك أطرافاً إقليمية مستفيدة من الحرب، لا هم لها سوى بسط نفوذها والاستفادة من ثروات اليمن، ولايهمها وضع اليمنيين. أتمنى أن تعود اليمن إلى ما كانت عليه، كلنا هنا نطمح للعودة إلى أوطاننا». الكثير من اليمنيين هناك يستذكرون دور جمهورية مصر في اليمن وارتباطها الثقافي والسياسي والاجتماعي بالمجتمع اليمني، يقول أحدهم: «تاريخياً، وخصوصاً منذ عهد الزعيم جمال عبد الناصر، احنا اليمنيين بنحب ونعشق ونقدس مصر وتربينا على هذا الشيء... مع مدرسينا المصريين، مع المسلسلات المصرية، مع الأغاني والجرائد والصحف والمجلات المصرية، تقريباً كل شيء»، وختم حديثه بالقول: «مصر واليمن دولة واحدة، ولا مجال للمزايدات».