كل القوى والشخصيات سواء قوى القبيلة أو قوى العسكر أو الساسة جميعهم وعلى مختلف الانتماءات يتحدثون عن آمالهم في بناء دولة مدنية تختفي فيها كل مظاهر عسكرة الحياة ويتساوى فيها الجميع أمام القانون. لا خلاف على ذلك ولكن الغريب أن التطبيق ابعد ما يكون عن هذه الدعوات فكل العسكر لازالوا يتعسكرون وكل مشايخ القبايل لا زالوا يتقبيلون وكل الساسة يتمترسون ولم نجد أي اثر لرغبه حقيقة في تمدين الحياة ولم نرى إلا مزيد من مظاهر العسكرة في كل مكان حتى المدن التي كانت أكثر مدنية تم عسكرتها وأصبحت تكتض بالمسلحين وتنتشر في شوارعها ومرافقها مظاهر الفوضى والبطش والنهب وتزامن هذا مع ضعف وضياع الأجهزة الأمنية التي باتت ربما عاجزة عن الدفاع عن نفسها إزاء ما يجري في البلد وأصبح المواطن يبطش بالمواطن وصار المجتمع يعيش فقط على ما تبقى لدى البعض من القيم التي تحمي الضعفاء أحيانا من بطش الباطشين وبلطجة المتبلطجين.
اعتقد الكثيرون أن الحل سيكون بخروج صالح عبر توقيع المبادرة الخليجية وكانت كل المشاكل تُعلّق بشخص صالح ونظامه وظهرت الأمور وكأن الخلاص من صالح يعني الخلاص من كل مشاكل اليمنيين واعتقدوا أيضا أن توقيع المبادرة سيكون نهاية المشاكل وليس أولها ولكن الحال لازال كما هو سواء اقتصاديا أو امنيا أو سياسيا فكل شيء كما هو وكأن صالح لازال يحكم وما هو جديد هو انتشار البلطجة والفوضى وانفلات امني في اغلب محافظات الجمهورية.
غياب الدولة كان ولا يزال واضحا وهذا ما أعطى النفوذ للقبيلة في المراحل الماضية كونها كانت أكثر حسما في بعض الأحيان من بعض مرافق الشرطة وأروقة المحاكم والنيابات وأصبحت الدولة ومرافقها ليست أكثر من مجرد أماكن للجباية والتحصيل والنفوذ ولا تمثل لشيخ قبيلة أو قائد عسكري أكثر من مكان يمكن أن يحقق من خلاله مصالحه الشخصية ويستوعب أهله ومقربيه لضمان تكوين حياة كريمة لا يهم فيها تأدية أي دور لهذه المرافق ولشعب لازال في مراحل النشأة الفكرية حيث إلى الآن ربما لم يعرف شعبنا المغلوب أين تكمن مصلحته وكيف يمكن تحقيقها, وكان ضعف الثقة هذا سببا في انهيار الأجهزة الأمنية بهذه السرعة ووصولها لهذه الدرجة من الضعف.
البيئة الموجودة الآن أعطت مساحة واسعة للفوضى ولا يوجد مبرر لقيام البعض بهذه الأعمال إلا المظلومية التي يدعيها الجميع حتى أننا كشعب لم نعد ندرك من هو الظالم ومن هو المظلوم حقا وما السبيل لوقف هذه المظالم ومن أين يمكن أن تكون البداية خاصة إذا كان الجميع يشعر بالسخط وانعدام الثقة وغياب الرؤية الواضحة تجاه المستقبل الذي ربما ساهمت بعض الأحداث والتدخلات الخارجية في رسم فشله وبقاء الحال كما هو إن لم يكن إلى الأسوأ.
وفي ظل هذه الصورة الضبابية للوضع في اليمن وغياب الرؤية المستقبلية فإن الوضع لا ينذر بخير وان حاولنا أن نكون متفائلين إلا أن للتفاؤل بشائره وللتشاؤم ما يدفع إليه, وعندما تختفي أو تتوقف علامات التقدم فلاشك أن الوضع سيتجه إلى الأسوأ شئنا أم أبينا خاصة إذا كنا نعتقد أن تغيير بعض الأمور البسيطة يمكن أن يحل المشكلات المتراكمة والتي ربما ازدادت خلال العام الأخير من عمر اليمن والذي حمل معه الأمل الكبير الذي تعلق بحباله غالبية اليمنيين, فماذا لو تلاشى هذا الحلم وانتهى كسراب بقيعة, هل توجد لدينا البدائل المناسبة التي تحفظ البلد من الانزلاق إلى المهلكة وتحقق حلمنا الكبير كشعب يدعي جميع أبنائه من كافة القوى الرغبة في بناء الدولة المدنية وهل نعرف حقا ما هي الخطوة الأولى نحو هذه الغاية ومن الذي يعيق تطبيقها أم سنظل رهن لمبادرات الآخرين ومساعداتهم.