-1- دائماً تستهويني توافقات الكلمات والأشياء التي تصنع أحداثاً عظيمة، ففي الرياضيات الحديثة أصبح من الممكن التسليم وبدون ذرة شك باحتمال أن يقع السبب الأول لحدوث إعصار عظيم يضرب سواحل الكاريبي في عمق سلسلة من الأحداث تبدأ بحركة جناحي فراشة فوق زهرة لنبتة نادرة لن تجدها إلاّ في غابات الأمازون في البرازيل! وهو ما بات يُعرِّفه علماء الرياضيات ب"أثر الفراشة". وإلاّ فما الذي يوحي به مشهد وادي غير ذي زرع وامرأة ذات عينين ملؤهما الفجيعة تجري هنا وهناك تبحث لوليدها الذي يبكي عن قطرة ماء؟ بالتأكيد سيجيب عقلك "المنطقي" بأن المشهد لا يوحي بآبار ماء زمزم التي ستتفجر ولا يوحي كذلك بالبيت الأول الذي سيُبنى ويُذكر فيه اسم الله ولا يوحي كذلك بأن الوادي المُجدِب سيُصبح نقيضاً للجوع والخوف بل سيُصبح القرية التي ستكون أماً للقرى وتهوي إليها أفئدة الناس من كل فجٍ عميق! -2- بعد اختياره ضمن أفضل 168 فيلم من أصل 1070 فيلم شارك فيلم "عدن والأربعين تغريدة" في مهرجان الجزيرة الدولي الثامن للفيلم التسجيلي عن فئة " أفق جديد" المخصصة للشباب والتي تنافس فيها 19 فيلم في المرحلة النهائية. الفيلم حصيلة جهد مجموعة رائعة من الشباب لا يملك إلا عزمه وإرادته في التحليق والرغبة بتحقيق ما يريد. وبالتأكيد لم تترابط هذه المفردات عبثاً: أفق/ جديد/ عدن/ تغريدة/ شباب/ مهرجان/ وفيلم! ولم تتناقل وكالات الأنباء هذه الكلمات اعتباطاً لتجعلها تُحلِّق في الجوٍ عاشقة زاهية تماماً كنُسيمات تلكم الفراشة البرازيلية! وإن الطاقة الكامنة في مدينة عدن -والتي بمقدورها أن تجعل عدن ليس ميناءاً عظيماً بل أماً لموانيء العالم- قد اطلقها الشباب في وجه أصحاب المشاريع الانتقامية التي لم ترى في عدن إلاّ قرية صغيرة تماماً كمشاريعهم الصغيرة. -3- خلف المشهد الفيلمي المضيء الذي مثله فيلم (عدن والأربعين تغريدة) والمغرِّد بالأصالة عن مدينة عدن في مهرجان الجزيرة للفيلم التسجيلي عن فئة (أفق جديد) في العاصمة القطرية الدوحة – بالمناسبة الدوحة تعني لغوياً الشجرة العملاقة! - يختبيء مشهد مظلم وهمي أراد (علي بابا والأربعين حرامي) تكريسه عن بلاد العرب السعيدة؛ وهو مشهد لا يأتي من عدن أبداً وليس له أن يأتي من عدن فعدن لا تمنح إلاّ التغاريد.
-4- في هذا الزمن الجديد؛ زمن الأفق الجديد يصبح الإنتماء الى عدن ليس انتماءاً مناطقياً يرفعه أهل الجنوب! فالجنوب ليس جهة جغرافية أو إنتماء عرقياً بل هو موقف وانتماء لحلم الدولة المدنية الحديثة وعدن هي حصن هذا الحلم وميناءه الذي يبتسم ويبتسم معها امتداد ساحل بحر العرب من المندب الى المهرة مروراً بأبين والمكلا. هذا الساحل العبقري في مكانه بانفتاحه على العالم ودوره التاريخي كصلة بين الشرق والغرب مؤدياً دوره الطبيعي كترانزيت عالمي لسلع الشرق كله لتنطلق منه قوافل الخير الى غرب العالم والعكس صحيح ايضاً فالقادم من أوروبا لا يكتشف الشرق إلا عند وصوله إلى عدن كما قال بول موراند في كتابه الطريق إلى الهند. -5- على امتداد ابتسامة عريضة بعرض ساحل بحر العرب، تنام وتصحو أم الموانئ عدن كقُبلةٍ تكلل شفاه ساحل بحر العرب بالحياة التي تأتيها من كل بحرٍ عميق، فعدن هندية كذلك! عدن أفريقية كذلك! عدن آسيوية كذلك! نعم عدن هي كل ذلك وأكثر! فهي قطب مغناطيسي كما يقول الرحالة والأديب الفرنسي فيليب سوبو! عدن قطبٌ مغناطيسي آخر يوازي قطب سفن البحارة التي تحمل إلى عدن كل سلع الكوكب وكل أجناس البشرية وكل أنواع الغزاة. والعجيب في الأمر، أنهم وحدهم مَن يسكنون سواحل بحر العرب مَن منحوا إسماً عربياً صريحاً لبحرهم لاينازعهم فيه منازع!
همسة: وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي خمسة عشرة بحراً للشعر العربي ثم وضع الأخفش البحر السادس عشر وسماه المتدارك لتداركه الفوات الذي وقع فيه الخليل! وآن لنا أن نتدارك بحرنا المنسي: بحر العرب حيث نبتت على أنسامه رئة الشعر العربي الأولى! أوليس أمرؤ القيس جد الشعر العربي؟ وعلى أرض جنوب جزيرة العرب دَرَجَت قدماه؟ * سيناريست فيلم "عدن والأربعين تغريدة" - تويتر: @BD_007