-1- ما يتميز به الحراك الجنوبي منذ ولادته هو أنه تنظيم "عضوي" بالمعنى الذي يعطيه أنطونيو غرامشي لهذه الكلمة، صاغه الجنوبيون أنفسهم بممارساتهم على الأرض فهو لم يكن تنظيماً اخترعه نظام ما ليكون له ذراعاً سياسية تطال المجتمع من أجل السيطرة والهيمنة عليه شأنه شأن الأحزاب الحاكمة في معظم بلدان العالم الثالث في المرحلة التي أعقبت التحرر الوطني. ولم يكن الحراك الجنوبي أيضاً حزباً رديفاً للأحزاب الحاكمة من أجل اصطناع معارضة ديكورية يتبادل معها الأدوار وتمثيلية الديمقراطية الزائفة. ولم يكن الحراك الجنوبي في نشأته مبني على آيدولوجية ما سواءاً كانت رومانسية قومية مفرطة أو هوس ديني أو نسخ لتجارب أمم سابقة وتطبيقها بشكل تعسفي على واقع مغاير بل كان الحراك الجنوبي هو تنظيم الإنسان الجنوبي بعفويته واندفاعه الحر نحو تحقيق إرادته. -2- أما وقد بلغت مسيرة الحراك الجنوبي اليوم أكثر من خمس سنوات فقد وجب التقييم وهي مدة كافية لاستنتاج الدروس والعبر و من ثم التصحيح وهي عملية يجب أن يُشرَك الجميع فيها وتحديدا القواعد الشبابية. ولا ينبغي أن تكون عملية التصحيح كالحركات "التصحيحية" التي سادت سبعينيات القرن الفائت في بلدان العالم الثالث الخارجة لتوها من نير الاستعمار الغربي، والتي دائماً ما تكون تبريراً للقفز على الكرسي لأنه لا توجد أساسا سلطة للجنوبيين على أرضهم فضلا عن أن يوجد لهم كرسي. وسأسلط نقدي على ثلاثة مستويات. -3-المستوى الأول: القيادة و جدل الأجيال إن حيوية "الكيانات العضوية" والذي يُعتبر الحراك الجنوبي تمثيل صادق لها هو في قدرتها على النمو الدائم أو المُستدام شأنها شأن الكائنات الحية وقدرتها على التجدد والتعاقب عبر التناسل فتطرح الثمرة بعد نضجها (النضج هو الشيخوخة وهي مرحلة تتهتّك فيها الأنسجة وتترهل) بذوراً جديداً لتستأنف دورة جديدة وقد سجّلت هذه البذور الجديدة تجارب السابقين في أمشاجها. بدون هذا الوعي يتصلّب النسيج الحي ويتيبّس ويجف ويموت ويتلاشى. إن وعود "قيادات" الحراك الجنوبي بتسليم القيادة للشباب يجب أن يُمارَس بشكل عملي وخصوصاً بعد أن ابتدع الشباب العربي تاريخاً خاصاً به في ربيع 2011. لايكفي القول بأن الحراك الجنوبي قد ابتدء إشعال أولمبياد ربيع العرب في 2006، فالحقيقي أيضاً أن هناك ربيعٌ ثانٍ اختططه شباب الجنوب في 16 فبراير 2011. لايمكن استيعاب أن متوسط عمر الجنوبي لا يجاوز ال 18 ربيعاً بينما متوسط أعمار قادته يصل الى أكثر من ثلاثة أضعاف ذلك وما تحمل هذه السنين الطوال من خيبات وانتكاسات وهزيمة فادحة ليوتوبياهم الموعودة المتمثل في الوحدة اليمنية. إن استمرار "القيادة الجنوبية" على الاعتقاد بأنهم "الذات" التي توجّه وتُشكِّل "موضوعها" الذي هو الشعب الجنوبي نفسه، سيبوء بخسران عظيم للحراك الجنوبي ككائن "عضوي". إن استيعاب المعادلة بشكل مقلوب هو الذي يضمن استمرار النمو بشكل مستدام؛ حيث الشعب هو مَن يُهندس شكل القيادة وشكل الدولة المرتقبة، وهنا ننتقل الى المستوى الثاني في نقدنا.
-4-المستوى الثاني: التعددية واستيعاب التنوّع إن عفوية الحراك الجنوبي وتلقائيته بل وفطريته أيضاً قد ابتعدت منذ النشأة الأولى له عن الأحزاب القائمة موالاةً ومعارضة بوصفهما وجهين لعملة نظام صنعاء. فلقد أدرك الحراك الجنوبي منذ النشأة أنه يخوض حرباً ليس ضد نظام فاسد ولكن ضد حياة سياسية فاسدة. كل ذلك لن يُلغي نزوع الإنسان الجنوبي نحو التكتل الذي يؤطِّر قناعاته الفكرية ومصالحه الشخصية فنزوع الإنسان الفرد -كما يُعلمنا درس عالم الإجتماع ماكس فيبر- نحو التجمع في شكل مؤسسي من أجل مصالح اقتصادية واجتماعية معينة وبناءاً على مرتكزات دينية وأخلاقية أيضاً، هو حقيقة إجتماعية.كيف للحراك الجنوبي أن يستوعب هذه الحقيقة الإجتماعية؟ ما يبدو جلياً هو النزوع نحو تحويل الحراك الجنوبي إلى مجرد حزب سياسي وليس تيار عام لنضال شعب الجنوب بكل ألوان الطيف وهو الشيء الذي يحد من جاذبيته. ومرجع ذلك النزوع إلى أسباب تتعلّق بماذكرناه في المستوى الأول للنقد وهو أداء "القيادة" التي تَشكّل بناءها الفكري ضمن فضاء ما قبل ربيعي لا يستوعب قوس قزح، وما قبل سقوط الآيدولوجيا بواسطة التكنولوجيا، كما يحب أن يصف جورج طرابيشي الربيع العربي، التي مثلتها ثورة الإنترنت وشبكات التواصل الإجتماعي والتي تكشف أن التنّوع حقيقة لايجوز مصادرتها بأي شكل من الأشكال.
-5-المستوى الثالث: الهوية الجنوبية والعنصرية من هو الجنوبي؟ أو ماذا يُريد الجنوبي؟ هذا هو المنطلق نحو التأطير الإيجابي للحراك الجنوبي. لكن مانراه مؤخراً هو الإتجاه وبصورة فجّة نحو التأطير السلبي للحراك الجنوبي بالإنطلاق من الأسئلة المعاكسة مثل: من هو اللا جنوبي؟ وما الذي لا يريده الجنوبي؟ وبذلك يتم تعريف الذات الجنوبية من خلال نفيها للآخر اللا جنوبي! فبدلاً من بناء صورة فوتوغرافية عن الجنوب يتم بناء النسخة الكربونية السالبة (النيجاتيف) من الصورة حيث لا يظهر في الصورة إلاّ الآخر اللاجنوبي بلون الظلام حيناً وبلون الدم القاني حيناً آخر. عدا أن الهوية الجنوبية، شأنها شأن أي هوية، هي صورة متحركة وقيد التشكّل الدائم أي تكتسب تعريفها في المستقبل وليس في الماضي.
همسة: مريبٌ ماتصطلح عليه الثقافة العالِمة والرسمية من مصطلحات فالمتصدر للشأن العام لديها هو "السياسي" الذي يسوس الخيل إلى مورد الماء كما تخبرنا معاجمهم! لقد اعتقدَ الراعي سانتياغو بطل الروائي العالمي باولو كويلو في روايته الشهيرة "الخيميائي" أنه الهلاك بعد أن اشتد به العطش في صحراء مصر، فما كان من صاحبه الخيميائي العجيب إلاّ أن أطلق العنان لخيله بأن تتجه حيثُ تريد الخيل قائلاً: "الحياة تعرف الحياة" فكما أن الخيل تعرف طريق الماء كذلك الشعوب تعرف جيداً ما تريد فلا "تعقلوها" بمخاوفكم وبما لا تريدون أيها الساسة! دعوها تنطلق فهي مأمورة.