ترددت كثيرا في كتابة هذا الفصل من الرحلة لشعوري التام أن هذا الفصل يحتاج لحظة انشراح للصدر وصفاء للمزاج وهذا ما فقدته أو جزء منه في نهاري هذا لأمور بسيطة طرأت على خاطري فأخشى أن لا تفي حروفي بحق هذا الطريق الذي يبدو كمتحف للصور الجميلة والنادرة، ولكن هروبي من تراكم الذكريات دفعني للهجوم على الكتابة تحت أي مزاج، خاصة أني أتوقع أن تذهب حرارة المشاهد مع الأيام لو أني سوفت في الكتابة. تقرر حسب ترتيب الجهات المختصة في مركز رايوند أن يجري تشكيلنا إلى منطقة (ديبال بور)، لم أسمع قط في حياتي باسم هذه المنطقة، فمعرفتنا بالمدن الباكستانية لا تتجاوز العاصمة إسلام أباد وكراتشي ولاهور وبيشاور وعدد قليل غيرها. وقفت أمام خارطة باكستان المعلقة في المركز، وباعتمادي على معرفة نقطة لاهور وجدت نقطة مدينة ديبال بور على الخارطة بالقرب من مدينة كبرى تسمى (أوكارا) . كان موعد التحرك بعد صلاة الظهر مباشرة وصلاة الظهر تصلى الساعة الثانية ظهرا، وقبل صلاة الظهر يتناول جميع من في المركز الغداء، فتناولت لقيمات من رز برياني وزبادي وقرص رغيف يسمونه(روتي) وكلمة روتي أردية تعني خبز ثم رشفت رشفات(سليماني) وهو الشاي الأحمر، وغسلت يدي وهرعت إلى السوق حيث المغسلة التي تركت عندها بالأمس ثيابي، وهم هنا يطلقون اسم(الدوبي) على صاحب المغسلة ومن ثم أطلقوه على المغسلة نفسها. حزمنا امتعتنا وحقائبنا ثم دعينا للجلوس بين يدي أحد الدعاة عند كرسي الترجمة العربية ليترجم لنا الهدايات (الإرشادات) التي يزود بها الخارجون قبل انطلاقتهم، ومن المسجد يلقي الشيخ الهدايات لجميع الخارجين وهناك ترجمات لكل لغات الخارجين العربية والإنجليزية والاندونيسية والصينية وغيرها، تصل هذه الترجمات عبر المايكرفونات في كل المواقع سواء في المسجد أو في السكن أو البدروم أو في المباني البعيدة، وهذه الهدايات تشبه حسب قول المشايخ الهدايات التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يزود بها الدعاة والغزاة حين خروجهم من المدينة، وكانت بحق هدايات مهمة جدا تدل على تجربة طويلة للشيخ في ميدان الدعوة إلى الله تعالى، واستمرت هذه الهدايات إلى قبيل الساعة الثالثة عصرا وعندها اتجهنا إلى الباص الذي استأجرناه ليأخذنا إلى ديبال بور وقد دفع كل واحد منا 350 روبية للأمير(نويد) وهو شاب ثلاثيني لبيب يحفظ القرآن الكريم، وقد نشأ في المركز، وكلمة(نويد) فارسية وتعني (بشارة)، تجمعنا حول سيارتنا وأخذنا نرفع على سقفها أمتعتنا وحولنا صف طويل من السيارات التي استأجرها الاخرون للخروج في أماكن شتى وفي ذلك اليوم خرجت أكثر من 130 سيارة. في الكرسي الأمامي جلس الشيخ أبوبكر بلفقيه وجلست أنا خلف السائق من جهة اليمين، والجدير بالذكر أن حركة السير في الباكستان حركة يمينية فجمع السيارات سكانها في جهة اليمين والحركة في الطريق بعكس الحركة في بلادنا. ما أن انطلقت السيارة حتى لمست أن السائق رجل عجول أو كما يقول أهل عدن(مقرح فيوز) فرغم ضيق الشوارع إلا أن سرعته جنونية ودخلاته بدون روية لكنه رجل ضحوك مرن مزاح. خرجنا من شوارع المدينة إلى الفضاء الفسيح وهنا بدأت أولى خطانا في مهرجان الفن والجمال والروعة والسحر والمناظر الخرافية، فعلى يمين الطريق وشماله وعلى مد البصر تمتد السهول الخضراء والقطع المتجاورة من جنات الزروع والثمار المختلفة الأنواع والألوان، السيارة تسير بل قل تطير وكأنها في حلم أسطوري تتداخل فيه الصور أو كأنها من قصص الخيال التي ترويها الجدات للأحفاد الحالمين، يا إلهي هل هذا حلم أم حقيقة؟ هنا حيث تتناثر الهموم وتتطاير الكروب هنا حيث يأخذ الغم إجازة مفتوحة،؛السيارة تسير ومساحات مزارع الرز لا تحيط بها العين ولا يحصيها البصر تتخللها الكثير من الأشجار العملاقة وأبراج الكهرباء وبيوت الفلاحين وطرقهم المرصوفة والترابية مع قرص الشمس الأصفر الذي يسعى نحو الأفق الغربي بخجل شديد ويتبرقع أحيانا بلفائف من قطع السحاب توشك أن تنتحي عنه كما تسقط الرياح برقع الجميلة العذراء والتي لا تملك غير ابتسامة تخفي بها حرجها أو تضع يدها على بعض وجهها ليزيدها ذلك المشهد جمالا ودلالا، وهكذا كانت شمسنا تلك الليلة، نسير نحوها وهي تترحل مترنحة سكرى نحو الغروب وكلما اقتربنا منها زاد اصفرارها وجمالها ورمت بخيوطها الذهبية على متن تلك المزارع المترامية الأطراف، وهنا يظهر قطيع من الجواميس التي يعلو ظهورها ورؤوسها شيء من الوحل الذي يشير إلى عبور هذا القطيع ترعة من تلك الترع القادمة من نهر(راوي) الشهير، وبالقرب مني يجلس الشاب المترجم هارون وكأنه مرشد سياحي في دار الأساطير فيشير إلى مزارع المنجا والجوافة التي تقف مرصوصة إلى نهاية الأفق الشمالي، ومن جهة اليمين ترى الحراثات تشق الأرض وترسم خطوطها وكأنها رسام ماهر يضع خطوط الرسم بمسطرته. وهنا تظهر مزارع البطاطس فنتجاوزها لتطل علينا مزارع الذرة الرومية(البوشار) وفتاة تسعى خلف حمار يجر عربة محملة بثمار الذرة وغلام صغير يجر بقرة نحو بيته القريب من خط القطارات الذي يسير بجوارنا حيثما سرنا. سألت المترجم هارون : ماذا يسمى هذا الطريق الزراعي؟ قال : خط (قصور) حيث يؤدي إلى مدينة قصور وقبل أن يكمل كلامه ظهرت لنا مدينة صغيرة فقرأ هارون اسمها من البرت المنصوب في مدخلها(مدينة كوت رادهاشن) وهي مدينة جميع من فيها يظهر عليهم أنهم فلاحون، اخترقنا المدينة لنرى فرن مرتفع يشبه منارة المسجد يتصاعد منه الدخان فقيل لنا أنه فرن لصناعة الطوب الأحمر وبالقرب منه يقع بيدر كبير للحبوب تقف فيه عشرات بل مئات الأكياس الجاهزة من الرز وعلى طول الطريق نرى البيادر، والفلاحون يقفون فيها فرحين بجمع الحصاد. هدير السيارة لا يكف عن الصراخ ومزاح صاحبها يتناثر هنا وهناك، وقبل الوصول إلى مدينة قصور أوقفتنا نقطة عسكرية فنزل السائق يشرح للعسكر أنه يحمل عددا من دعاة التبليغ من العرب والباكستانيين فاقترب العسكر من النوافذ يرحبون بنا جذلين ويشيرون للسائق بالتحرك، فلم نلبث يسيرا حتى ولجنا مدينة قصور ومررنا بجانب الكوبري الوحيد الذي رأيناه فيها، وفي نقطة أخرى يبدو أنها لسائقي سيارات الأجرة قدم السائق سندا للموظف ثم عاد إلى مقوده ليطير بنا من جديد فإذا مزارع الذرة البيضاء تغطي السهول، والجواميس تتهادى عائدة من نهار سعيد قضته بين تلك المزارع وفرس يسير أول قطيع الجواميس السوداء، والحراثات تغمس أنيابها في بطن الأرض لتقذف فيها أجنة البطاطس والحبوب المختلفة، ثم تبدت لنا مدينة (يتوكى) في خط(جونيان) ومنها دخلنا مدينة جونيان. السيارة تسير وأبراج الكهرباء كأنها ربطت بأسلاك حديدة أعلى روسها حتى لا تتمكن من الهرب، وبعض الفلاحين يحرق الحشائش وبقايا الأشجار وشجيرات الأرز اليابسة فيتصاعد الدخان فتختلط رائحته براحة الوحل ومنظر الترعة والأطفال الذين يتقاذفون بكرات الطين المعجون بماء النهر والطيور التي تقف على أسلاك الكهرباء تحك أجنحتها بمناقيرها وراعية الضأن التي يعلو قطيعها الغبار وكأنه البخور في حفلات الزار وأصوات محرك السيارة وكأنها صدى طبلة بكفي عجوز مخضبة، في هذا المشهد الجنوني يظهر مالم يكن في الحسبان. يا إلهي! ! أخذت أفرك عيني وأعيد النظر وأكرره، إنه نهر(بونروال) وهو عبارة عن خطين متوازيين يفصل بينهما برزخ من اليابسة، تقطعهما السيارات بجسرين صغيرين وهذا النهر يسير حتى يصل الحدود الهندية ليرسم الخط الفاصل بين الدولتين. تجاوزنا النهر لكن دهشتي وذهولي لم تتجاوزني وأصابت الخمرة رأسي في مقتل وتمنيت أن يكون لي هنا بيت ومزرعة وجواميس وأغنام ووحل ألعب فيه مثل الأطفال حتى تتسخ ثيابي ويصيب الوحل أرجلي وذراعي وذهبت بي الأحلام فلم أفق إلا على منظر قطيع من الإبل يسير بجانب خط القطار وكأنه عربات ذلك القطار الذي لم نره منذ انطلاقتنا، وفي هذا المشهد تخيلت نفسي في سيارة الفرزة العائدة من عدن إلى مودية وتذكرت مناظر الجبال السوداء والصخور المدببة وأشجار السمر والأشواك والشمس المحرقة فشعرت بشوق يهزني إليها، وفي هذه اللحظة وقفت السيارة جانبا لكي نصلي العصر حيث والحنفية يؤخرون صلاة العصر كثيرا وفي قرية(ديل دهول) في منطقة حجرة جونيان في مسجد أنوار المدينة صليت العصر، وخارج المسجد وجدت عددا من الأطفال فدعوتهم وصافحتهم ومسحت على رؤوسهم واحتضنت أصغرهم فودعوني وهم يشيرون بأيديهم. الشمس صفراء شاحبة وقد تحولت كهيئة البدر والمزارع تغطي الأفق والبطات تسبح في الترعة وأبراج الكهرباء لا زالت معتقلة بوثاق من حديد والرعاة يجرون خلف مواشيهم والماء يغطي بعض القطع المتجاورات والسحاب متناثر في السماء بلونه الأبيض وهدير السيارة يغني على مزامير ضحكات السائق حتى تجاوزنا قرية(حجرة شاه مقيم) وواصلنا سيرنا في صفحات هذه الأساطير حتى بشرنا السائق أننا وصلنا مدينة (ديبال بور) فانحرف شمالا بين البيوت ليستقبلنا مركز ضخم لجماعة الدعوة والتبليغ وفي ساحته مئات من العمائم البيضاء تعلو وجوها تتساقط منها قطرات الوضؤ . وللحديث بقية ناصر الوليدي -- ديبال بور