لم نكن نعلم أن هناك ما يختبئ لنا باستحياء من صروف وتقلبات المواقف واللحظات، ونحن نمني أنفسنا أن نقيم المرح كل المرح على سواحل تلكم الجزيرة الصغيرة التي يممنا وجوهنا شطرها، وقصدناها وأعددنا لبلوغها كل عدة.! وصلنا مدينة صلاح الدين محطتنا الساحلية الأخيرة، قبل أن نركب ظهر الماء، ونقف فوق أكتاف بحر العرب؛ ليحملنا إلى مرامنا وهدفنا الذي طالما حلمنا بالمرح والاستجمام على بساطه. أصيل ذلك اليوم.. صعد فتية وشبان مع معلميهم فوق الماء ذي اللون الأزرق، ولم يكن ثمة غريب أو داع للتركيز في طيات الرحلة.. كان البحر هادئاً نسبياً، وأمواجه تنساب وتتكسر فوق بعضها برقة وهدوء، ونحن على متونها نرنو إلى الأفق حيث لا أشجار ولا تراب غير الأمواج تتلو الأمواج والله تعالى خير حافظاً وهو أرحم الراحمين.. لعل النوارس البيضاء كانت تدري أن رحلتنا تلك كانت بثوب البراءة، فأخذت تطوف بمراكبنا، وتحلق بمرح جذاب فوق ركبنا، وتعلو إلى السماء ثم تهبط بهدوء لتلامس الأمواج، باحثة عن صيدها ورزقها المعلوم وهذا ديدنها المعروف والمألوف.. نزلنا ساحل الجزيرة الصغيرة ولم نجلس للاستراحة سوى لحظات قصيرة حتى اندفعنا نحو فصول المرح لنلعب كرة الطائرة، وما إن انتهينا حتى شرعنا بتوجيه من أساتذتنا الكرام بالتسبيح والذكر، حتى مالت شمس ذلك اليوم الجميل إلى الغروب.. وبعد أن فرغنا من صلاة المغرب جلسنا سوياً، والبشر والسرور يكسو قسمات الجميع، حتى حان موعد صلاة العشاء فصليناها جماعة، ثم تناولنا وجبة العشاء بعد ذلك ببرهة؛ لتبدأ فصول المسابقة الثقافية التي كنت مقدمها الرئيسي المباشر -وصديقي الفاضل الحسن اللودري- وسط جو من التنافس الرائع بين الزملاء والأحبة في هذه الرحلة.. وما إن فرغنا من مسابقتنا حتى حدثت اللحظة الفارغة التي قصمت ظهر جمال هذه الرحلة وأحالتها إلى شيء من الذكريات هو ما دفعني لتسطيره في هذه السطور.! أقبل شخص غريب عن رحلتنا صوب تجمعنا، وألقى تحية السلام ثم أردف : من أنتم ؟! ما كان من أساتذتنا الأجلاء إلا أن ساروا إليه ليتحدثوا معه، ويخبروه بشخصياتنا وهدفنا من هذه الرحلة، وما أن وصلوا إليه حتى تراجع الغريب إلى الوراء قليلاً، ثم أشهر سلاحه والغيظ بادياً على تصرفاته هذه .. أما نحن فقد أدرنا رؤوسنا صوب التلال الصغيرة التي تحيط بنا؛ لنرى هناك مسلحاً وفي الجهة الأخرى مسلحاً آخر.. أحاط بنا مجموعة من المسلحين من كل جانب؛ لنقع في هذه الكماشة التي سرعان ما تلاشى خطرها، عندما علمنا أنهم من جنود البحرية أو خفر السواحل كما يسمونهم ، ولما علموا أننا طلاب بسطاء، طلبوا منا أن نغادر هذه الجزيرة وأن نخلي هذا المكان لأنه منتصف الليل، وليس هناك أدنى داع لبقائنا في هذا المكان حسب اعتقادهم.. كان هذا التصرف برأيي منطقياً جداً لأنهم أخبرونا خوفهم على مخازن السلاح، التي ربما تجثم على ظهر الجزيرة خصوصاً وأن الأوضاع في بلادنا مضطربة والله بها عليم. وما أن نزلنا إلى بر عدن وثراها، حتى أحاطوا بنا من جديد، وأبلغونا نيتهم باحتجازنا وتوقيفنا، مع علمهم أننا لم نكن نحمل ما يدعو للظن السيئ، ومن حسن حظنا أن أمير رحلتنا تربطه علاقة معرفة بقائد المنطقة الرابعة فتحدث معه بالجوال ليأمر جنود البحرية بإطلاق سراحنا بعد لحظات عصيبة عشناها بين كيف ولماذا وماذا يريدون.! إن هذه الذكريات ستبقى منقوشة في مخيلة كل من كان معنا وستظل؛ لأنها حوت الغرابة والدهشة وكيف تحول الحلو إلى مر، وانقلبت أمنياتنا البيضاء إلى دوائر من الضيق والخوف والهلع، ثم شاء الله تعالى بعدها أن يحدث أمراً آخر، وأن يمن علينا بالسلامة والحمد لله رب العالمين .