غيرت حرب صيف العام 2015 التي شنت على الجنوب المشهد السياسي تماماً، حيث انصهرت القوى التي كانت شرارة الثورة الجنوبية وباتت لاتحظى بأي شعبية، وكذا برزت قوى أخرى حظيت بشعبية منقطعة النظير لكنها مارست سياسة الوعود المنتظرة والمرجوة للشعب في الجنوباليمني على أمل تحقيقها لكن شيئا من ذلك لم يحصل، وباتت هي الأخرى تعاني للحصول على الثقة والشعبية مرة أخرى. مايزال الجنوبيون يبحثون عن عودة الجنوب المفقود بين تلك القوى التي برزت على المشهد والقديمة في آن واحد، عل أن تصحو من غفلتها لكن فقدان الأمل بات هو السائد اليوم والمسيطر هنا في الجنوب.
هل انتهت حقبة القيادات الجنوبية السابقة ؟ يقلب الجنوبيون صفحات الماضي، ابتداء من الرئيس الجنوبي علي سالم البيض، وصولاً إلى الرئيس علي ناصر محمد إلى دولة رئيس الوزراء حيدر ابوبكر العطاس، إلى القيادي عبدالرحمن الجفري، وأخيراً محمد علي أحمد، علهم يبعثون لهم بصيص أمل في جنوبٍ افتقد لقيادة جنوبية حقيقة لا تبيع أوهاماً ولا تشترى بمالٍ ولا تزيف حقائق على الأرض شجاعة صريحة وواضحة في المواقف، لكن شيئا من ذلك لم يحدث أيضاً. ولم يكن يستطيع ربما البيض مثالاً أنّ يعود من المنفى بسلطنة عُمان إلى الجنوب وكذا العودة إلى المشهد، نظرًا لصحته المتدهورة ولكبر سنة. في المقابل بقي قياديان كناصر تسود مواقفهم الضبابية، فهو لم يدن حربا شُنت على الجنوب، ومشغول دائم بسعيه منفرداً إلى وضع حلول للسلام اليمني لإيقاف الحرب ونزيف الدماء، كما يطمح - من خلال - هذه المواقف إلى منصب رفيع يحظى به في أقرب تسوية سياسية تطيح بالرئيس عبدربه منصور هادي وحكومته. وبالتزامن مع كل ذلك، بقي القياديان الجنوبيان العطاس ومحمد علي والجفري في مواقف ضبابية هم الآخرين، بعيدًا كل البعد عن شعبهم وبلدهم وما إذا مازالوا مصرين على استعادة الدولة الجنوبية أم قد بيعت لأحد الأطراف الإقليمية أو المحلية كالشرعية اليمنية ممثلة بالرئيس هادي. وتسبب بروز وجوه جديدة على المشهد فيما بعد الحرب، واحتكارها للقضية الجنوبية في شخوصها، بمغادرة القيادات التي كان لها ثقلها في الجنوب واضحت بلا وزن تماماً. ويبدو أن حقبة هؤلاء القادة البارزين انتهت جنوباً وبات غيرهم يؤدون الدور نيابة عنهم على المشهد، من خلال انشغال البعض وصمتهم الطويل والمستغرب.
هكذا بات الانفصال صعب المنال؟! لا عودة لزمن الدولتين أو "الشطرين"، في اليمن بل إنّ الأمر تجاوز المستحيل في تحقيقه، ولم تبقَ سوى الوعود الباذخة وفي آن واحد بات يدرك غالبية الجنوبيين أن الوعود هذه مجرد هراء وسراب بحسب الأحداث المتتالية على المشهد السياسي الجنوبي. وكان الرهان على القوى الخارجية بعثر ما تبقى من القيادات الجنوبية ومزقها وباتت تتناحر فيما بينها البين وباتت أطراف كالرياض وأبوظبي وحكومة هادي تلعب دوراً رئيسياً ومحركاً لتلك القوى ومن أبرزها الحراك الجنوبي والانتقالي الجنوبي.
هادي.. والقوى الجنوبية ووقفت أبرز عقبة لدى الجنوبيين في شخص الرئيس الجنوبي عبدربه منصور هادي، الذي كان متسبباً هو الآخر بشكلٍ أو بآخر بتشتت الجنوبيين مابين أبوظبي وحكومته، حيث يخشى الطرف الموالي لأبوظبي من الأقدام على الدخول في مواجهة مباشرة معه تخوفا من مآلات هذه المواجهة خصوصا أن الكثير من القيادات الجنوبية تواليه وابرزهم من كان يطالب باستعادة الدولة الجنوبية. وسعى هادي لإعطاء الكثير من القيادات الجنوبية مناصب رفيعة حيث كانوا منظوين بداخل الحراك الجنوبي، الذي خرج ضد نظام الرئيس الراحل علي عبدالله صالح. ويعتبر جنوبيو الشرعية أنّ هادي جنوبي ولا يجوز الخروج عليه، وليس كصالح الذي ينتمي للشمال اليمني والذي توحدوا عليه تحت كلمة وقيادة واحدة.
الحرب وأثرها وكشفت الحرب الأخيرة على الجنوب ماكان خافيا طوال أعوام من نضال هش تساقطت اقنعته في أول رهان بعد الحرب، حيث كشفت الحرب أقنعة المطالبين باستعادة الدولة الجنوبية، وكيف تحولوا إلى متاجرين باسم قضية الجنوب. ويعتقد غالبية الجنوبيين أن الحرب كانت في مصلحتهم، لولا الدمار والضحايا، كونها كشفت خفايا القيادات التي باعت القضية الجنوبية مقابل مناصب. ويقول سياسيون جنوبيون، إن القيادات الجنوبية التي كانت تدعي ولاءها للجنوب كانت هي في الأساس تطمح للمناصب لكن الرئيس صالح لم يكن يعلم بذلك، وإلاّ لعينهم لخمد الشغب الذي كانوا يثيرونه ويروح ضحيته عشرات القتلى والجرحى.
مصير القيادات ويبدو مؤكدا وفق الأحداث أن القيادات الجنوبية السابقة كعلي سالم البيض وعلي ناصر محمد وحيدر العطاس وعبدالرحمن الجفري ومحمد علي أحمد، بات مصيرهم المنفى الإجباري في الخارج خصوصاً مع اضطراب الأوضاع الأمنية جنوباً وإن عادوا إلى المشهد ستكون عودتهم لاتعدو عن كونها عودة خيبة أمل، لن تغير شيئا في المشهد، لسببين رئيسيين وهي عدم التفات البعض للجنوب في وقت كان فيه الشعب بحاجة إلى حلول تفضي به إلى بر الأمان، وارتهان البعض لقوى خارجية، بالإضافة إلى أنهم لم يحركوا المياه الراكدة للقضية الجنوبية ولم يضيفوا عليها شيئا جديداً منذُ أكثر من ثلاثة عشر عاماً. كما ستلحق هذه القيادات، قيادات أخرى ظهرت مؤخرًا كقيادة المجلس الانتقالي الجنوبي، الذي لم يعطِ ولم يستفد الجنوب منه شيء منذُ نشأته لأكثر من عام ونيف.
نهاية المكونات إلى ذلك، تؤكد هذه الوقائع منذُ العام 2007 وهو تاريخ انطلاقة الحراك الجنوبي الذي كان يطالب بفك ارتباط الجنوب عن الشمال، بأن المكونات الجنوبية والشخصيات السياسية الجنوبية كافة في طريقها إلى الاندثار من المشهد الجنوبي. وبات الحراك الجنوبي الذي كان يتزعمه البيض والذي كان أحد أبرز المكونات التي تحظى بشعبية كبيرة في الجنوب، على وشك الاندثار نتيجة لعدم اضفائه اي جديد على القضية المطالب بإنصافها منذُ صيف 94 وصولا الى ازدياد المطالبات بفك الارتباط في العام 2007. وعلى الرغم من عدم مرور سوى أشهر من إنشاء المجلس الانتقالي الذي حظي بشعبية كبيرة من جهة أخرى، ألاّ أن تلك الشعبية باتت تتشظى يوماً بعد آخر، وبات سقوطه أمراً حتمياً.
حُلم وكان الجنوبيون يرون أن تخليص الجنوب من جماعة الحوثي وقوات صالح بعد الحرب، انفراجة لهم وبدء عهد جديد للجنوب يسوده المحبة والإخاء والتكاتف الشعبي لتحقيق المطلب الرئيسي وهو استعادة دولتهم، خصوصا أنهم كانوا في خندق واحد وممسكون بالأرض وباتوا قوة لابأس بها، لكن كل هذا لم يحصل وبقيت المحافظاتالجنوبية المحررة تصارع من أجل البقاء، وسط الانفلات الأمني الذريع. ومع تقلب أجواء المعادلة السياسية في اليمن بات الجنوبيون في لحظة وضحاها ضحية صراعات لاتزال قائمة إلى اليوم.
تخوف ويتخوف قطاع واسع من الجنوبيين من حالة الشحن غير المنطقية والتعبئة الخاطئة، معتبرين أنها ستفجر قتالاً داخلياً لا محالة إن أستمرت. وبات غالبية الجنوبيين يرفضون تأييد استعادة الجنوب في هذا التوقيت بالذات، كونه سيؤدي إلى اقتتال حتمي، وإن تظاهر داعموه بعدم حصول ذلك على الرغم من أن البعض منهم شارك في تظاهرات سابقة مؤيدة للانفصال، لكن ما آلت إليه الأوضاع مؤخرًا ترك تخوفا كبيرا من عودة ماضٍ أسود أو يناير جنوبي آخر.