الجنوب قبيل الوحدة كنت حينها في السنة الثانوية الأخيرة في ثانوية جواس مودية محافظة أبين ضمن جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية الممتدة على مساحة 360 كيلو متر مربع من باب المندب غربا إلى شحن شرقا، وقد جرت تسوية مشكلة حدودية مع عمان قبيل الوحدة وترسم بين البلدين خط الحدود. كانت البلاد تحكم بنظام الحزب الواحد في نظام اشتراكي يمنع التعددية السياسية ويرفع شعار (لا صوت يعلو فوق صوت الحزب) ، أما عدد السكان فكان ينقص على اثنين مليون ونصف قليلا بينما يبلغ عدد سكان الجمهورية العربية اليمنية أكثر من ثمانية عشر مليونا وجميع الشعب الجنوبي مسلمون سنة شوافع إلا أعدادا بسيطة جدا من البهرة يعدون بالمئات وهم في الأصل هنود جاءوا مع بريطانيا . قبل خروج بريطانيا لم يكن هناك ثقل للشيوعيين. إلا أن عبد الله باذيب أسس ( اتحاد الشعب الديمقراطي ) عام 61م فلعب دورا كبيرا في تحويل وجهة الجبهة القومية من الفكر القومي العربي الى الفكر الماركسي الأممي ورغم أيضا أن الحزب الاشتراكي استطاع أن يستولي على السلطة ويكون نظاما إشتراكيا محميا بجيش حسن القيادة والتدريب والتسليح مع السيطرة الكاملة على مؤسسات التوجيه والتربية والجامعات إلا أن الفكر الاشتراكي المنافي للفطرة فشل في اختراق العقل الجنوبي مصداقا لقول النبي صلى الله عليه وسلم (الإيمان يمان والحكمة يمانية) وبقي الناس على فطرتهم الإسلامية السليمة، وكان في الجنوب قبل الاستقلال وبعده بسنوات قليلة عدد من العلماء كالبيحاني وباحميش وباعباد مع وجود بعض الأربطة للصوفية ونشاط ضعيف لجماعة التبليغ كان الشعب اليمني في الجنوب يكره الحزب الاشتراكي والاشتراكيين ويشير إليهم باستحقار حتى كان يقال (فلان حزبي) كنوع من الاستهجان، صحيح أن الحزب ضيق على بناء المساجد ومنع تداول الكتب الدينية وحارب الكثير من مظاهر التدين خاصة في مجالات الوظائف العامة المدنية والعسكرية ولكنه فشل فشلا ذريعا في إقناع الشعب بالفكرة الاشتراكية. وكانت أحداث 13 يناير ضربة قاصمة للنظام جعلت يده مرتخية وقبضته ضعيفة وبدأت بوادر صحوة إسلامية وإن كانت سرية وضعيفة. أذكر أنه بعد أحداث 13 يناير عام 1986م وكنت في الصف السابع جاء إلى منطقتنا (أورمة) شاب متدين هاربا من عدن يستعد للخروج إلى الشمال وبقي عندنا أشهر فكان يجمعنا في المسجد ويعلمنا الصلاة والقرآن الكريم ويعمل لنا بعض الدروس ويخطب بنا الجمعة، كان ذلك الشاب هو منصور عقلان والذي طاب له المقام في تعز إلى هذه اللحظة، وفي بداية عام 1989م أرسل لنا خالي كتاب (منهاج المسلم) فعكفت على قراءته عدة مرات. كان النظام في الجنوب يعيش أزمة حقيقية فهو يعاني من آثار أحداث 13 يناير ويشعر بتنامي الرفض الشعبي للفكر الاشتراكي مع بروز صحوة إسلامية هنا وهناك ضف إلى ذلك ترنح الاتحاد السوفيتي وخروج البروستيكا الجورباتشوفية، كما أن هناك مشكلة كبيرة في بنية نظام ما بعد 13 يناير، فعلي سالم البيض الأمين العام للحزب الاشتراكي والرجل الأول في البلاد وكذلك رئيس الدولة والرجل الثاني حيدر أبوبكر العطاس كلاهما حضرميان لا يمتلكان أي نفوذ في المؤسستين العسكرية والأمنية وهناك بوادر انقسام داخل القوى المنتصرة في يناير وكانت الإطاحة بالبيض وشيكة بعد أن فقد سنده الخارجي المتمثل في الاتحاد السوفيتي، حتى أنهم يذكرون عن البيض أنه قال( بادخلكم جحر الحمار) يقصد أنه سينقذ نفسه بالذهاب إلى وحدة مستعجلة غير مدروسة. من جهة الجنوب كان الشعب يتلهف للوحدة هربا من نار الإشتراكية وأيدولوجيتها ونظامها الاقتصادي ولو قدر أنه أجري استفتاء على الوحدة لكانت نسبة الموافقين عليها كبيرة جدا تتجاوز ال 90 % إن لم تكن أكثر . ثم حصلت خطوات متسارعة، اتفاق فبراير 89م والاستفتاء على الدستور والاتفاق على فترة انتقالية ، وهرعت الناس إلى الوحدة دون ضمانات حقيقية ولا اتفاقية مفصلة تؤسس لوحدة حقيقية متينة القواعد تحميها من عبث الأنظمة المتوالية . ومما أتذكره أن سعود الفيصل وصل إلى عدن يريد أن يثني قادة الجنوب عن التوقيع على الوحدة ووعد بتقديم مساعدات كبيرة ولكن لم يجد أذنا صاغية وعاد حاملا حقيبته إلى الرياض.