العقل أم النقل؟ أيهما مقدم على الآخر؟ سؤال وجيه جدا قد يحل لنا كل الإشكاليات: الدينية والاجتماعية والحضارية، لأنهما عنصرا حياة المجتمعات الإسلامية، وهما مصدرا التشريع والاستقبال، التقنين والامتثال، التعبد والكفرية، العبودية والتحرر، الإنسانية والبهيمية، الحب والعنصرية.
لقد وضع أحد الأصدقاء الأسئلة التالية: . من سيدلنا على المَخْرَجِ العقل أم النقل؟! . أيهما يستطيع أن يقول لنا ونحن في هذا الخضم من الأحداث هذا هو المخرج من الأزمات والمآسي والفتن؟! . أهو العقل بما لديه من قدرة إدراك ووعي وتمييز للخير من الشر، والصواب من الخطأ، والعدل من الظلم، والمفيد من الضار، والممكن من غير الممكن؟! . أم هو النقل (القرآن الكريم والسنة النبوية)، وهو البعيد عنا زمانا ومكانا، والقابع نصا في ثنايا الكتب والمؤلفات، بعيدا عن الواقع والحال؟! . أليس العقل قاصرا وناقصا وقابلا للخداع فكيف يكون هاديا ومرشدا؟! ثم أجاب على تساؤلاته قائلاً: "إن العقل والنقل هاديان معا، ونافعان معا، ولكن لابد لهما من أمر ثالث، فهما كالعينان يمكن أن تبصر بهما الطريق وتعرف بهما المخرج. فما هو بظنكم الأمر الثالث؟".
فكرت في تساؤلات صديقي وطرحه، ثم شحذت همتي لأرد عليها وأفندها، مستدلا بما جاء من كتاب الله سبحانه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه لأنه تنزيل من لدن حكيم عليم خبير.
هو منطق يذكرني بالسؤال المتكرر: الدجاجة أم البيضة، فهو سؤال أبله جدلي عبثي في عرفي ومنطقي أنا كمؤمن، لكنه قد لا يكون كذلك في عرف ومنطق الملحد. العقل مركز الفكر والتفكر والإلهام، والقرآن مصدر الفكرة والإيمان، وقد نزل لمخاطبة العقل: "إن في ذلك لآيات لأولي النهى"، "لقد كان في قصصهم عبرةٌ لأولي الألباب، "ومن نعمره ننكسه في الخلق أفلا يعقلون"، "أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها"، "لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد"، "كتابٌ أنزلنٰه مباركٌ ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب"، "إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآياتٍ لأولي الألباب"، "أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها"، "وإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور"...الخ
وانظروا في هذه الآية: "قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآناً عجبا. يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا". هنا الجِنَّةُ سمعت آيات الله تتلى ففكروا فيها بقلوبهم وعقولهم بعد أن سمعتها آذانهم.. ثم آمنوا بها و بمنزلها. فمن قال أن العقل قبل النقل فقد حقر ماعظم الله! أيعقل أن يخاطب العزيز الحكيم شئاً غير ذي بال ثم يطالبه بالتفكر والتدبر؟؟؟! هذا أمر مستحيل. فما كان الدين إلا موافقا للعقل والمنطق، وإلا لا إيمان لمن لم يفهم مراد الله ورسالته! لا إيمان لمن نطق بلسانه ولم يؤمن قلبه! لا إيمان لم يتفكر ويتدبر! والقرآن الكريم حين ينادي الناس ويدعوهم إلى الإيمان فهو يخاطب عقولهم: "يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون"، "يا قومنا أجيبوا داعي الله إذا دعاكم لما يحييكم!". وما جاء شيء في الدين يخالف العقل والمنطق البتة، ولا ورد بين صفحاته اختلاف وتعارض: "أفلا يتدبرون القرآن! ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً"، إلا أن أفهام الناس قد لا ترتقي إلى فهم كلام الله تعالى! ومن قال أن النقل قبل العقل فقد ألغى العقل ووظيفته.. بل وكذَّبَ الله تعالى الذي خاطب عقول البشر! من وجهة نظري لا نقلٌ يسمو على العقل ميدانيا وعمليا و رسالياً! لو كانت الرسالة إيمان من غير عقل وتفكر وتدبر واقتناع لما سمي هذا إيمان بل بله! ولو كان بالإكراه من غير عقل يفهمه ويؤمن به لكان إكراها للبشرية على الإيمان بشيء لا تريده، وهذا يخالف النقل نفسه حين نتخرص عليه أنه يجبر الناس على الإيمان به، بينما رب العزة سبحانه يقول: "أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين؟"، ويقول: "لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي". أنظر إلى الكلمة المستخدمة: الرشد من الغي. فمن هنا أقول أنه لا يوجد مسوغ واحد يقدم النقل على العقل إطلاقاً، ولا في أي مساحة! وهل يجري القلم على الإنسان إلا بعد أن يبلغ الحلم، أي سن التمييز والرشد!
وحين أستدل على كلامي من كلام الله فهذا لا يعني أني أقدمه على عقلي وفطنتي! فسبحانه أنزل كتابه لي كإنسان أو جانٍ، وترك لي مساحة التفكير والقرار وحرية الإختيار.. وبما أني مخير، فالله سبحانه أعطى لعقلي أن يفكر ويقدر ويختار وأن يؤمن بهذا الكتاب أو لا! لذلك خلق الجنة والنار! والمهديُ منا من وفقه الله لهدايته، ولكن متى؟؟؟؟ بعد أن يُعمِل عقله ويجتهد في البحث عن الحقيقة: "والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا"!
الآن وبعد كل هذه المقدمة الطويلة نعود إلى المنطق في السؤال الأول: وماذا سنستفيد نحن من هذه الفلسفة الطويلة؟!!! أقول باختصار أن الفائدة من الإجابة على هذا السؤال عميقة وكبيرة جدا. فهي تضيء الطريق أمامنا لتلمس حياتنا كاملة، ويطرح لنا الحل الشامل الكامل لمآسينا الاجتماعية والسياسية. فصحة منطق العقل قبل النقل تجعلنا نفهم: 1- أن القرآن كلام الله الحق، وهذا عرفناه بعقولنا. 2- أن ما ورد إلينا من السنة ليست بالضرورة كلها صحيحة، وبالتالي يحق لنا أن نرفض منها ما خالف العقل والمنطق والشرع والقرآن. 3- تجعلنا نعرف أن كل السياسات التي اتبعت في تدجين الشعوب، وتفريقها وتمزيقها، وتفريغها من العقلانية أدى إلى استغلال البعض للنصوص الدخيلة، وتجييرها بغرض التعالي على البعض، والتسلط عليهم، وأن هذا ليس من الدين في شيء، ولابد لنا من رفضها كلها جملة وتفصيلا. 4- ينير لنا الطريق، بل ويحثنا على الثورة ضد كل ذلك الموروث المتهالك القديم، الذي يخالف جوهر الدين وصريح القرآن، فيحررنا من ربقة الحكام الظالمين، ومن كهنة الدين. 5- أن الحرية مكفولة للجميع دون استثناء، وهذا يؤدي إلى تحقيق مبدأ العدالة الاجتماعية. والله من وراء القصد!