حالما كان عمري بحدود الخمس سنوات كانت أمي تحذرني، بل و تقمعني أحيانا للحيلولة دون المكوث طويلا أمام المرآة، ربما هذا القمع هو من دفع طفولتي إلى الفضول، وحب الاستكشاف، والاستمتاع بما أجهله، وكأن طفولتي كانت تريد أن تعرف تفاصيل نفسها في المرآة التي ربما تبدو عالما قائما بذاته؛ عالم المرآة يثير العجب والأسئلة!! وأنا أريد أن اكتشف عوالمي من خلال هذه المرآة، التي صارت في متناول يدي؟! كيف يبدو وجهي أمام الناس؟!! أريد من المرآة أن تحكي لي ذلك وبوضوح وبأدق التفاصيل.. الآن لا يوجد أحد في حضرتي غير المرآة وخلوتي.. هذا ما يجب اغتنامه، ولا أهدر لحظة منه.. الفضول هو شغف المعرفة، والمنع أعطى للمعرفة قيمة، واستحثاث لحوح للاكتشاف.. اليوم وعمري يشارف الستين أحاول أن أمنطق وجها من طفولتي التي كانت لازالت في حدود عمر الخمس سنين.. وبين هذا العمر وذاك عوالم وأحداث وتفاصيل أشعر أنها من الكثرة لا تتسع لها مجرّة.. وبين الطفولة والكهولة التي أقترب منها رويدا، مدى قطعته كالمسافة من السديم إلى الوجود الكثيف، نحو الكهولة والتلاشي.. كنت أحملق في وجهي بالمرآة.. أريد أن أحفظ تفاصيل وجهي عن ظهر قلب، وعلى نحو أستطيع تخيله في أي وقت أريد، وفي أي حال وهيئة أكون فيها.. أريد أن أطيل النظر العميق لأرى شيئا لا أستطيع رؤيته إلا في المرآة .. ولطالما تمنيت أن يكون الخالق قد خلق لنا عينا ثالثة بمكان ما في أجسادنا، نستطيع من خلالها في أي وقت أن نرى وجوهنا وكل الجسد بيسر وسهولة.. عندما وجدت الخلوة و الفراغ و الوقت الكافي لإشباع رغبتي، حدث لي شيئا غريبا لازلت أذكره إلى اليوم.. كنت في الحجرة العليا بدارنا القديم، والذي صار اليوم مهجورا .. كانت الحجرة مسقوف نصفها، و نصفها بدون سقف.. تلك الحجرة نسميها “البرادة”، كان مفرج الدار يتكئ في أحدى زواياها في نصفها المكشوف .. وتبدو تلك الحجرة مؤنسه، وتمنح بعض الشعور بالراحة، أكثر من أي مكان آخر في الدار. أذكر أن تلك المرآة كانت بمساحة وجهي، أو أكبر من مساحته بقليل.. مستطيلة الشكل في إطار أنيق.. بدت لي ،،،،،،،،،،، (7) صمود وغموض! • صارت الأشباح في وعيي شيئا من الماضي.. ليس فيها ما هو واقعي.. ربما بدت لي مجرد وهم في رؤوس بعض البشر المعتقدين بوجودها.. صرت أعتقد أن لا أثر لهم ولا وجود.. قناعة بدت لي راسخة وقوية، مع بقاء بعض الغموض في تفسير تلك الحادثتين التي تعرضت لهما أيام طفولتي، الثعبان الذي شاهدته على الأرض، والعجوز الشمطاء التي شاهدتها في المرآة، ومع ذلك لازلت أعتقد أن هناك تفسير علمي حتى لهاتين الحادثتين، أو حتى توهمي لهما، يختلف قطعا عمّا هو سائد في وعي الناس.. • لم أعد ذلك الطفل الذي يخاف من الأشباح والظلام، صرت أبحث عن أولئك الأشباح، ولا أجدهم.. أضع لما أسمع من حكايات الأشباح ألف تفسير وافتراض إلا افتراض وجودهم.. ولكن حدث أمر غريب، يستحق السؤال المعرفي أو التفسير العلمي لما حدث، بعيدا عمّا هو شايع وراسخ في وعي الناس، مع التأكيد مرة أخرى أن طرحي للأمر هنا هو من قبيل السؤال المعرفي ليس إلا.. من المهم معرفة حقيقة الواقع كما هو بالضبط، وتصحيح ما يستحوذ في وعي الناس من معتقدات وأفكار خاطئة، وكشف ما لا زال غامضا أو ملتبسا أو عصيا على الفهم.. • كنت قد صرت أحمل يقينا أن لا وجود للأشباح إلا في وعي الناس، وفي زيارة لأسرتي ودارنا في القرية أثير ما هو غامض ويلقي الحيرة والسؤال.. ففي أول يوم الزيارة، وقبل أن أنام بمعية أفراد أسرتي، سمعت وقع خطوات، وركض، وحركة نشطة على سقف الديوان الذي ننام فيه.. تتالت تعليقات الأهل.. واحدا يقول: “ندّروا” وآخر يجيب: “وقتهم”، وثالث يعلق: “دروا أنه بدأ موعد نومنا”، ورابع يقول: “الحين زامهم”.. كان أهل البيت قد تعودوا و تعايشوا مع هكذا وضع، فيما أنا وجدتها فرصة لاستكشاف الأمر وأعيش التجربة بنفسي.. • كان اللافت والأهم بالنسبة لي أنني ليست وحدي من يسمع ما أسمع، بل كلنا نسمع وبالتفاصيل.. أي حركة نسمعها جميعنا.. ليس فينا واحد يسمع ما لا يسمعه الآخرين.. كنّا نسمع ركض أشبه بركض أطفال يلعبوا على السقف.. تلتها حركة نشطة وكأنها ذهاب و إياب لبعض الأفراد على ممشى السقف.. ثم وقع خطوات ثقيلة جدا، تبدو وكأنها لشخص ثقيل الحجم، تستطيع أن تعد خطواته وهو يمشي.. الحقيقة لم أشعر بالخوف، بل شعرت إنها فرصتي لاستكناه الأمر بنفسي، ومعرفة ما يحدث وسببه!! • سألت شقيقي عبدالكريم من متى يحدث هذا الأمر الغريب..؟! فأجاب: - أكثر من شهر..! يتكرر بشكل يومي.. ما ان نهم بالنوم حتى نسمع هذه الاصوات، احترت كثيرا و لجأت إلى عدة حيل لمعرفة السر وحدوث هذا الأمر الغريب .. استشرت عدة اشخاص ممن اثق في رأيهم و لم تكن اجابة أي منهم مقنعة أو مفيدة.. • ويضيف: - لجأت لشخص يدعى ب ”السيد” لكن ما قاله لم يكن مقنعا.. لجأت الى عدة اساليب وحيل عملية لرصد ما يحدث وكشفه.. ذررت رماد على السقف لعلي اجد اثر لقدم او لمرور أي شيء و لكن دون جدوى.. حاولت أن أضع صاعق قنبلة وخيط يمكنه أن ينفجر بمرور أي جسم، فأنفجر عن طريق الخطاء فوق أمي! وفي كل حال لم اصل الى نتيجة تستحق شيئا من التعويل أو الاهتمام.. عندما أنزل من السقف للنوم، وما ان اغلق باب الديوان لننام نسمع ما تسمعه الآن.. أذهب لأستطلع الامر ولا اجد شيئا مما أبحث عنه.. افتش كل الأمكنة في الدار ولم أجد أي أثر لأي شيء غير عادي.. • بعد شرحه لما فعله، زاد شغف فضولي المعرفي المتحفز لتفسير ما يحدث!! وجدت من المهم أن اعتمد على تجربتي وحواسي، ومحاولة استكشاف الأمر بنفسي.. حملت بندقيتي، وعمّرتها، وصارت جاهزة لإطلاق الرصاص، ووضعت أصبعي على الزناد.. تسللت إلى السقف ومكثت مدة ساعة أرقب الأمر.. • لم أرَ شيئا!! لم أسمع شيئا غير طبيعيا، بل كان الصمت يلف المكان!! السكون يسود ويطغى.. أعود إلى الديوان أسمع كل شيء أنا وأسرتي.. أعود مرة ثانية إلى السقف لا أسمع شيئا، فيما أسرتي التي في الديوان يرقبون الأمر معي من مكانهم، ولم تنقطع الأصوات التي في السقف عنهم.. • أضيء الكشاف.. أفتش السقف، وكل ما له صلة فيه أو لصيقا به، ولكني لم أجد شيئا، ولم أسمع أكثر من حركتي وأنفاسي التي أحاول خفضها وتعويضها بمجال أوسع لصالح السمع.. أنزل مرة أرى إلى الديوان فاسمع ما يسمعه الجميع.. أعود فلا أسمع ولا أرى شيئا.. حيرة بلغت حد أغرقتني في الذهول.. • شعرت بفشلي المؤكد، غير أن فضولي ظل متحفزا، يرفض الاستسلام، ويتوق لمعرفة ما هو غامض.. انتظر قليلا في الديوان وما أن أسمع بركضة في السقف أهرع إليه بسرعة وكأنني أريد ان ألحق ما أريد اكتشافه أو القبض عليه متلبسا.. أعود بتحدي أكثر وبحب وشغف معرفي وعناد مثابر.. فلا أجد ولا أرى شيئا غير طبيعي في السقف.. أمكث بعض الوقت حد الملل والسأم ولم ألحظ أي شيء، ولم أسمع إلا صمت مطبق كصمت المقابر.. أفتش كل شيء في الدار ولا أجد ولا أسمع شيئا.. وأتسأل بحيرة: كيف أكون بالسقف ولا أسمع شيئا، فيما لا تنقطع الأصوات عمّن هم في الديوان..؟! • أعيتني الحيلة وأعجزتني الوسيلة لاكتشف شيئا ما.. كنت شغوف لأعرف شيئا يفسر الأمر.. كانت دوافعي معرفية أكثر من أي شيئا آخر.. لم أنس فرضية أو احتمال إلا ووضعته في الحسبان.. لم أترك احتمال إلا واختبرته.. أريد أن أعرف السبب لأبدد حيرة استولت على تفكيري، وبدلا من إزالتها كبرت حيرتي واستغرقني الذهول.. • لاذ أحد أقربائي إلى الطلاسم والتعاويذ وبعض من الذكر، غير إن الأمر أشتد يومين حتى بتنا وكأننا نغالب قدر يريد إخراجنا من منزلنا بالقوة تحت تأثير الرعب والهلع.. رفضنا الخروج.. قاومنا احتلال مسكننا بإصرار عنيد.. لم نتخلِ عن قيد أنملة منه. • كان الرعب يشتد، ولكن كنا نواجه هذا الرعب باستحالة الخروج مهما اشتدت وبلغت كلفة البقاء في منزلنا.. إنه العنوان الأول لأبجديات وطن يستحق الدفاع.. كانت لاتزال تلك العبارة على منصة الاستعراض العسكري في الميدان الأسود بالكلية العسكرية شديدة الحضور في نفسي وأعماقي: "وطن لا نحميه لا نستحقه". • بعد يومين أو ثلاث أيام من صمودنا العنيد زالت صناعة الخوف.. أنتهى كل شيء لصالحنا.. كسبنا الحرب وانسحبت الأشباح وقد خسرت حربها معنا.. وبقي غموض تلك التجربة يحتاج إلى علم وبحث ومعرفة.. • ظل غموض ما مررنا فيه من تجربة قائما إلى اليوم، وبقيت الأسئلة بالنسبة لي دون جواب..!! لم أجد منطق يسندني أو تفسير مقنع يشفي حيرتي عن حقيقة ما حدث.. بقي السؤال الرئيس بالنسبة لي دون جواب.. ماذا الذي حدث وكيف؟!!! ،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،، يتبع بعض تفاصيل حياتي