تقرير يبحث في مصير الجنوب بحالة إيقاف الإدارة الأمريكية الجديدة الحرب الدائرة في اليمن ما مصير الجنوب والصراعات إذا توقفت الحرب اليمنية؟ كيف سيُنهي الرئيس الأمريكي الجديد الحرب في اليمن؟ هل سنشهد تصالحاً يمنياً - يمنياً قبل أن يحدث توافق جنوبي - جنوبي؟ لماذا يبدو الصراع عميقاً في الجنوب ولا يوحي بتوافق قريب؟ ما أسباب إمكانية توصل المتصارعين في الشمال في أي لحظة إلى تسوية سياسية؟ ألم يحن وقت استفادة الجنوبيين من ملفات الماضي وصراعاته؟ مآلات الصراع.. جنوباً تقرير / بديع سلطان: شغلت الانتخابات الأمريكية العالم، وأسفرت نتائجها عن فوز مرشح الحزب الديمقراطي جو بايدن، على منافسه المرشح الجمهوري دونالد ترمب، وهي المنافسة التي اعتبرها كثيرون أنها أكبر من مجرد انتخابات. فالتغييرات التي يشهدها حكام البيت الأبيض، تتعدى تداعياتها الولايات المتحدة، لتصل إلى كل العالم؛ لهذا يعتقد محللون يمنيون أن النتائج التي أسفرت عنها الانتخابات الأمريكية الأخيرة قد تضع حداً ونهايةً للحرب الدائرة في البلاد منذ ست سنوات. ويرجع ذلك- بحسب مراقبين- إلى أن "أساليب وأدوات" السياسة الخارجية للحزب الديمقراطي الأمريكي تختلف كليًا عن سياسة نظيره الحزب الجمهوري، حيث يقتات هذا الأخير على الحروب في كل مكان من العالم، ويسعى إلى خلق أعداء جدد "للأمة الأمريكية"، حتى يستطيع أن يتحكم بالعالم. وكان ذلك جليًا وواضحاً في الحروب التي شهدتها المنطقة العربية تحديداً منذ أكثر من ثلاثة عقود ماضية، فالحرب الإيرانية العراقية 1981 - 1988، اندلعت في عهد الرئيس الجمهوري ريغان. ولم تمض سوى سنتين حتى أعطى الرئيس الجمهوري الآخر جورج بوش الأب الضوء الأخضر للعراق حتى يجتاح الكويت ويحتلها في أغسطس 1990، ثم ذهب يذهب يحررها متقمصاً ثوب المنقذ. غير أن الجمهوري بوش الابن تفوق على أبيه حين شن حربا كونية على أفغانستان والعراق خلال 2001 - 2003، تحت ذريعة الإرهاب ويحتل الدولتين حتى اليوم. لا يؤكد هذا الاستعراض التاريخي أن الرؤساء الديمقراطيين الذين حكموا البيت الأبيض أفضل حالاً من نظرائهم الجمهوريين، فالسياسة الأمريكية واحدة، وإن اختلفت "الأدوات والأساليب". فمن أبرز وسائل السياسة الخارجية للرؤساء الديمقراطيين للولايات المتحدة، هي "إطفاء الحرائق"، مع التزامهم الكلي بمصالح "الأمة الأمريكية" كما يصفونها في حملاتهم الانتخابية. ووفقاً لمراقبين ومحللين سياسيين، فإن المصالح الأمريكية تبقى متقدة ومستمرة، حتى وإن سعى الرؤساء الديمقراطيون إلى إطفاء الحرائق، كما فعل الديمقراطي جيم كارتر 1978 مع مصر وإسرائيل، وما حققه بيل كلينتون مع الفلسطينيين والأردنيين في اتفاقية سلام مع إسرائيل في 1992، وقبلهم جون كينيدي الذي أطفأ فتيل حرب نووية مع الاتحاد السوڤييتي في 1961 خلال أزمة خليج الخنازير بكوبا. هل تتوقف الحرب في اليمن؟ وعطفاً على كل ما تقدم، يرجح محللون أن يحذو الرئيس الأمريكي المنتخب، جو بايدن، حذو نظرائه الديمقراطيين من بني حزبه، خاصةً فيما يتعلق بالحرب اليمنية الدائرة منذ ست سنوات. وتبدو الحرب المستعرة في منطقة هامة من العالم، قد استوفت كل شروط توقفها وإنهائها، بالنظر إلى "الفوضى" التي باتت تسيطر على المشهد العام في المنطقة، وليس فقط في اليمن. حيث تداخلت المصالح، كما أن الأجندات الإقليمية قد نالت من اليمن وسيطرت عليها، وتحولت هذه البقعة إلى ساحة صراع للاعبين إقليميين ودوليين، يستغلون أدوات محلية لتنفيذ وتمرير مصالحهم والضغط على خصومهم من خلالها. ويبدو أن الحرب قد حققت أهدافها فيما يتعلق "بالفوضى الخلاقة" التي بشّرت بها الإدارة الامريكية قبل نحو عقدين من الزمان، وعزمت على نشرها في المنطقة. وبالنظر إلى الوضع في البلاد لا يمكن أن نرى فوضى أكبر من الفوضى التي تعيشها اليمن اليوم، شمالاً وجنوباً على السواء، فاليمن أضحى مقسماً، ليس فقط شمالاً وجنوباً، بل أن أوصاله متقطعة أيضاً غرباً وشرقاً. لكن لا يمكن أن نرصد حالةً أشد مأساوية من الانقسام الحاصل في الجنوب تحديداً، والذي يبدو أنه وضع عصيٌ على الالتئام، مقارنةً بذلك الوضع المنقسم في الشمال. ويعتقد مراقبون أن أية جهود أو ضغوط أمريكية لإنهاء وإيقاف الحرب في اليمن، سيكون الخاسر الأكبر منها هو الجنوب، حيث يعتبر الانقسام المجتمعي والسياسي هنا عميقاً أكثر منه في الشمال. توافق شمالي وانقسام جنوبي يرجح سياسيون أن يسعى الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى إطفاء الحريق اليمني، والذي سمح سلفه الجمهوري باستعاره، بناءً على تقليد حزب بايدن الديمقراطي في إطفاء الحرائق. وبطبيعة الحال، من المؤكد أن يتم ذلك ضمن تسويةٍ شاملة، تضمن أمن دول الجوار اليمني، وتمنع المليشيات الحوثية من تهديد محيطها، وهذا قد يؤدي إلى تفاهم (يمني - يمني)، بين المكونات السياسية في شمال اليمن. ويتوقع السياسيون أن تتحقق مصالحة يمنية يمنية بناءً على اتفاق وتسوية شاملة للأزمة اليمنية، بضغط أمريكي، وقد تضم هذه التسوية الحكومة الشرعية وأطرافها من المؤتمر الشعبي العام وحزب الإصلاح والأحزاب المنضوية تحت لواء الشرعية من جهة، وبين جماعة الحوثي من جهة أخرى. وفي ظل هذا التوافق الشمالي، يرجح مراقبون أن يبقى الجنوب منقسماً على نفسه، بسبب الكثير من العوامل والمسببات التي يبدو أن الجنوبيين ما زالوا رهناً لها، وتسيطر على كل تعاملاتهم وعلاقاتهم مع كل ما هو جنوبي. لماذا قد يبقى الجنوب منقسماً؟ ويخشى جنوبيون أن تنتهي الحرب اليمنية ويبقى أبناء الجنوب منقسمين ومتشظيين، عطفاً على واقعهم اليوم، المليء بالمواجهات والصراعات التي تعود بجذورها إلى عقود. ويعلل كثيرون تحقق التوافق الشمالي قبل أي توافق جنوبي - جنوبي بوجود العديد من المحظورات التي قد تمنع حدوث أي توافق في الجنوب. من هذه المحظورات أن الواقع الجنوبي ما زال متأثراً بتاريخ طويل من الصراعات والنزاعات المناطقية والقروية، والتي ترجع أصولها وجذورها إلى فترة ما قبل الاستقلال الوطني، وما أعقبها من صراعات سياسية وحزبية. ويبدو أن هناك من يدرس التاريخ الجنوبي جيداً، ويركز على جزئيات العلاقات السياسية والاجتماعية بين الجنوبيين، ويعمل على إثارتها بين الحين والآخر، فبعد أن هدأت وتيرة الصراعات الجنوبية ما بعد حرب 1994، تصاعدت وتيرتها عقب حرب 2015، وبلغت أوجها خلال السنوات الثلاث الماضية. وفي الوقت الذي يمكن للأطراف المتصارعة في شمال اليمن قبول التصالح والتوافق، والاجتماع على تسوية شاملة للأزمة، يرجح مراقبون أن هذا لن يكون سهلاً في الجنوب، بناءً على إرث طويل من الصراعات. صراع جنوبي عميق وبالعودة إلى تاريخ الجنوب، يمكن التأكد من أن الصراعات كانت عميقة، في هذا الجزء من البلاد، الأمر الذي يجعل من تحقق توافق جنوبي - جنوبي أمراً صعباً. فبمجرد مرور بعض الجنوبيين بفترة من النفوذ والسيطرة، استعرض بعضهم قوته على الآخر، وأغرقت المنطقة بالكثير من المواجهات والاقتتال المتواصل الذي يذكر الجميع بجولات الصراع المتتالية في نهاية ستينيات وسبعينيات وثمانينيات القرن الماضي. ويبدو أن التركة الثقيلة من المشيخات والإمارات والسلطنات المتصارعة التي حملتها معها الدولة الفتية عشية الاستقلال الوطني، حملت معها بذور الصراع وسافرت به عبر الزمن حتى حطت رحالها في واقعنا الراهن اليوم. حيث مثل التداخل المناطقي والسكاني، ونزاعات الأراضي بين السلطنات المتقاربة جغرافياً والمتشظية اجتماعياً، سبباً في علاقةٍ لم يكتب لها أن تسير بسلاسة وهدوء، وكانت هذه العلاقة غير المستقرة هي الحاكمة للسياسة الداخلية بين الرفاق أثناء تسيير وإدارة شئون الدولة الجنوبية، بحسب ما تؤكده الوقائع التاريخية. لهذا كانت الصراعات العنيفة والاعتقالات الأمنية والنفي السياسي وحتى المحاكمات الصورية، هي الأسلوب الإداري الذي انتهجه سياسيو الجنوب، منذ ما بعد الاستقلال وحتى تحقيق الوحدة اليمنية مع الشمال. وتشهد على ذلك إقصاءات حركة 22 يونيو 1969، التي استهدفت الرئيس الشعبي ورجالاته، والتصفية الدموية للرئيس سالمين أواخر 1978، بالإضافة إلى النفي الذي تعرض له الرئيس عبدالفتاح إسماعيل في 1980، وليس أخيراً مذابح يناير 1986، التي دفعت الجنوب للارتماء في أحضان وحدة يمنية غير محسوبة العواقب، فراراً من وقوع مزيد من التصفيات والإقصاءات. كل ذلك الماضي الأليم، الذي يُسرد بأسى، يؤكد أن الصراع الجنوبي الجنوبي عميق جداً، ونراه اليوم يتكرر منذ الوهلة الأولى لتحرير عدن، وخلال أحداث يناير 2018، وأغسطس 2019، ليس في عدن فقط. وبناءً على هذا التاريخ العصيب، يرجح مراقبون أن التوافق الجنوبي سيكون مستعصياً، مقابل إمكانية حدوث توافق شمالي، في حالة قررت الإدارة الأمريكية الجديدة إنهاء وإيقاف الحرب في اليمن. ما أسباب التوافق الشمالي؟ يعتقد متابعون لمجريات الأمور في اليمن، أن شمال اليمن، مر كثيراً بمنعطفات سياسية عديدة، منحته فرصة لأن يحتفظ بوحدة جغرافيته لقرون وليس فقط لعقود، كما أن هذه الوحدة الجغرافية كانت تحكمها وحدة سياسية متماسكة. ورغم تنوع النسيج المجتمعي واختلافه في المناطق الشمالية، بل وحتى تعدد المذاهب الدينية، إلا أن الوحدة السياسية لم تكن بمثل التشظي السياسي في الجنوب خلال فترة التواجد البريطاني. ولعل هذا ما جعل الشماليين أقرب لتحقيق توافق واستيعاب لبعضهم البعض حتى في الفترات الأولى من محاولات الحوثيين السيطرة على صنعاء، والتقارب الأخير بين أحزاب يمنية عريقة كالمؤتمر الشعبي العام والإصلاح. كما يزيد عدد من المحللين المشاكسين الإشارة إلى أن الشماليين يجيدون "معرفة من أين تؤكل الكتف"، ويستطيعون تأمين مستقبلهم السياسي لأحزابهم وأفرادهم، ويحفظون استقراراً نسبياً لمناطقهم ومواطنيهم، في الوقت الذي يسعى الجنوبيون إلى الدخول في تنافس ونزاع مع بعضهم البعض. وبرأي كثير من المحللين فإن ذلك يعود إلى الافتقار لأولويات التعامل السياسي مع المستجدات والتطورات والأحداث المتلاحقة. فكما هو معروف أن السياسة ما هي إلا عبارة عن تنازلات ومكاسب، وهو ما أدركه السياسيون الشماليون، ومن يعتبر أن السياسة قائمة على المبادئ والمثل والقيم فهو خاطئ ولا يدرك أي شيء في هذا المجال، وفقاً لمحللين. ولعل هذا ما ركزت عليه مختلف الإدارات الأمريكية المتعاقبة ورؤساء البيت الأبيض، الذين تعاملوا مع الأحداث الجارية في العالم بمبدأ المصلحة، وليست الشخصية، وإنما المصلحة العائدة على مواطني البلد المعني، أو ما تسمى بالمصلحة العامة. وتبدو سيكولوجية بعض الجنوبيين مختلفة تماماً عن النفسية الشمالية، التي تتعامل مع التطورات السياسية وفق التعامل العالمي والأمريكي تحديداً، بينما يتمسك الجنوبيون بعوامل لا علاقة لها بالحنكة والكياسة السياسية. الاستفادة من الماضي يتحسر غالبية المتابعين للشئون في الجنوب، على ما وصلت إليه الأوضاع الأمنية والعسكرية، والعلاقة مع الآخر الجنوبي اجتماعياً وحتى نفسياً. فالوضع متأزم لدرجة توحي بأن الصراعات التي تمترس خلفها أبناء الجنوب، بناءً على محركات وموجهات مناطقية لا يمكن أن تنتهي إلى نتيجة توافقية. لهذا ينصح كثيرون أبناءَ الجنوب بضرورة نسيان الماضي، والتوقف عن النظر إلى الوراء، والالتفات إلى الخلف فقط لمعرفة ما خلفته الصراعات من مآسٍ وكوارث نفسية واجتماعية، مزقت النسيج الاجتماعية، وسهلت على الآخرين السيطرة على الجنوب بكل سهولة. كما أن المآسي لم تقف عند الجانب النفسي والاجتماعي، بل حتى المجالات الخدمية والتنموية وتطوير البنى التحتية كانت هي الضحية الأكبر، من وراء الصراعات والتصفيات الدموية التي شهدتها عدن وبقية المحافظات. لذلك يعتقد البعض أن على الجنوبيين انتهاج ذات النهج الذي تسعى إليه المكونات والأحزاب السياسية الشمالية، فكما تبحث تلك الأحزاب عن مصالح مناطقها ومواطنيها، على الجنوبيين بكافة انتماءاتهم البدء بالبحث عن مصالح المواطنين الجنوبيين وتأمين مستقبلهم، وانتشال واقعهم وحاضرهم من المآسي والكوارث. فليس من الجيد والمنطقي أن نرى استقراراً في الشمال، وانتهاءً للحرب، وتفرغ للبناء والتنمية وإعادة إعمار ما دمرته الحرب، في مقابل استمرار المماحكات المناطقية والصراعات التي لم تخلف للجنوب سوى الدمار، دمار نفسي واجتماعي، ودمار تنموي وخدمي أيضاً.