ليس إلى الشك سبيل في أن ظهور ندوة الموسيقى العدنية كان أمرا حتميا و طبيعيا لتوافر عوامل موضوعية و ذاتية اكتمل نضوجها في أواخر أربعينيات القرن العشرين , و تحديدا ديسمبر عام 1948م الذي احتفى بلطفي جعفر أمان كشاعر مجدد إضافة الى اختفائه بالندوة الموسيقية .
الحراك الثقافي الذي عاشته مدينة عدن و ما شهدته من خطوات تأسيس مجتمع مدني , تمثلت في نشوء المنتديات الثقافية, و الرياضية , و التعليمية و الصحف الأهلية , كان علامة واضحة على تشكل وعي مجتمعي تجاوز مرحلة الإصلاح إلى مرحلة متقدمة هي مرحلة التحديث , و كان هذا الحراك الثقافي من القوة و من الفعالية , بحيث احتضنت هذه المدينة الصغيرة المساحة ( عدن ) ذلك الكم الكبير ( قياسا بمساحتها و تعداد سكانها ) من المنتديات التي توزعت في مناطق متقاربة .. وظهور دور العرض السينمائي المتعدد والمتميز بدئآ من ثلاثينات القرن الماضي وصل عددها الى ما يقارب 12 دار عرض حيث كان هناك العديدين من المهتمين بالنشاط السينمائي وأبرزهم السيد / طه مستر حمود .
و دون شك في أن الحراك الثقافي و الوعي المجتمعي جعلا من عدن رائدة في الإبداع و التنوير و مركز اشعاع يستقطب المثقفين من مختلف مناطق الوطن ...
ما ميز تلك الفترة أن صوت التجديد كان قويا في عدن ترددت أصداؤه في الفكر و في الأدب و في المجتمع و في الفن والسياسة , فالتجديد بات قضية شغلت المثقفين و احتلت مساحة في كتاباتهم و نقاشاتهم , و منها كتاب محمد علي لقمان ( لماذا تقدم الغربيون ) و كتاب أحمد سعيد الأصنج ( نصيب عدن من الحركة الفكرية الحديثة ) و مقالات لطفي جعفر أمان النقدية في تجديد اللغة الشعرية , و مقالات عبدالله باذيب عن النقد الأدبي و المدارس النقدية الحديثة , و ظهور الشعر المسرحي , و محاولات التجديد في القصة وغيرها و من هذا الوعي و من هذه الرؤية التجديدية نشأت ندوة الموسيقى العدنية في ديسمبر 1948م من صفوة مثقفة آمنت بأهمية التجديد , و بأنه الخطوة الأولى لأي مشروع نهضوي ,ومنها تولدت أيضآ بعد مضي ثلاث سنوات رابطة الموسيقى العدنية حيث حمل هؤلاء المثقفون جميعآ على عاتقهم مسؤولية تأسيس الغناء العدني الحديث , و تأصيله في الوعي المجتمعي , حفاظا على هويته و انتمائه.
و لتحقيق هدفها أعتمدت الندوة في منهجها الفني على الاستفادة من التراث الغنائي المخزون في الذاكرة العدنية , و من الخلفية الغنائية الشعبية في المخادر و المناسبات الدينية و الاجتماعية , و من أغاني الصيادين بحيث تكون ألحانها إمتدادا متطورا لهذا الغناء القديم بأسلوب جديد يستجيب لمتطلبات المرحلة التاريخية التي ينضوي فيها , بأنساقها الاجتماعية و الاقتصادية و الثقافية .. و نجحت الندوة في ذلك أيما نجاح من خلال أغنيات عميدها الفنان خليل محمد خليل الذي "وضع الأسس الهيكلية للأغنية العدنية" و كان "المهذب الأول للقالب الفني الغنائي في عدن" كما قال الاستاذ خالد صوري.
ونتيجة لنجاحها و انتشار أغنياتها تحولت الندوة إلى إطار يجمع شرائح المجتمع العدني بمختلف توجهاته , فكثر أنصارها من مثقفين و أدباء و فنانين و سياسيين و رجال أعمال : محمد علي لقمان .. علي محمد إبراهيم لقمان .. محمد علي باشراحيل .. عبدالرحمن جرجرة .. عبدالله فاضل فارع .. محمد سالم علي عبده .. عبدالله باديب .. محمد سالم باسندوة .. حسن علي بيومي .. عبدالله عبدالمجيد الأصنج .. زين باهارون .. ادريس حنبلة .. لطفي جعفر أمان .. الشيخ محمد علي باحميش ..محمد سعيد جرادة ..الموسيقار يحى مكي ..الموسيقار أحمد قاسم .. محمد مرشد ناجي .. سالم بامدهف .. محمد سعد عبدالله .. أبوبكر سالم بلفقيه .. ياسين فارع .. أسكندر ثابت ..عبدالمجيد القاضي .. محمد عبدالولي .. عبدالله محيرز .. خالد صوري و غيرهم ... ( و هذا ماسنتناوله في مقالات قادمة )
لا جدال في ريادة الندوة في تأسيس الغناء العدني الحديث , و في تأصيل الوعي الغنائي العدني ليقف هذا اللون الغنائي ثريا برصيده إلي جانب الألوان الغنائية الأخرى يمنية كانت أو عربية أو هندية .. و ما كان لهذا الانجاز الفني أن يكون دون هؤلاء الرواد من اعضاء الندوة : خليل محمد خليل .. علي سالم علي عبده .. محمد عبده غانم .. حسين علي بيومي .. عبده أحمد ميسري .. عبدالله حامد خليفة .. وديع سالم حميدان .. ياسين عبده شواله .. عبدالله بلال .. علي أمان .. أحمد شريف الرفاعي .. حسين أسماعيل خدابخش ..وغيرهم .. (سيأتي دكرهم في مقالنا القادم )
لقد قامت الندوة و من خلال الفن بدور وطني عظيم تمثل في الحفاظ على هوية عدن و تأكيدها , فكانت ردا راقيا و حاسما على الحملات المضللة و على أقاويل التشكيك في حقيقة و جود هوية عدنية وبخاصة بعدما أثبت العدنيون تمدنهم و ريادتهم الإبداعية ليس على مستوى اليمن وبل وجزيرة العرب , لقد أصلت الندوة بأغانيها ( ألحانا و كلماتٍ و أداءً ومعنى ) هذه الهوية في وعي المجتمع العدني , و أثرته بجمالية الغناء والثقافة والأدب , فعززت ارتباطه الوجداني و المصيري بأرضه , و نجحت في القيام بهذا الدور الوطني , الذي فشل فيه معظم السياسيين ... وللمقال بقية .