ليس صحيحاً القول من وجهة نظري ان ما بين العبقرية والجنون شعرة ، وأتكئ في هذه الوجهة على قول فيلسوف لا أذكر اسمه بأن العبقرية هي القدرة على تحمل المشاق ، غير انني أوافق اليوم ما يتردد على ألسن العامة في واقعنا المحزن أن ( ان ما بين الديون و الجنون شعرة ) لان المجانين المنتشرين في أرجاء بلادنا معظمهم من المثقلين بأعباء الديون بسبب عجزهم الشديد من تسديد ما أستلفوا لسد رمق أطفالهم فطيّر العجز عقولهم .
وقد فهمت عن قرب بأن أكثر المجانين هم من الموظفين الذين كانوا زمان يقتاشون وأطفالهم من رواتبهم بسلام وأمان ومن غير أي منغصّات أوملتويات أومنحنيات أو خوف من (المنخفضات) المكدِّرة للخاطر ، فلقد كان راتب الموظف يكفي لشهر كامل ويزيد منه شيء للتوفير .
أما اليوم فأضحى المعاش لا يسد نصف ما تستلفه خلال عشرة أيام وبخاصة إذا كان عندك درزن من الأطفال. لا أخفي عليكم ان الجنون ينتابني كلما تذكرت ديوني فأنا أيضاً موظف وصحفي غلبان أعيش في ذات المأزق ولكن لطف الله ينزل بي فأعود إلى رشدي شاكراً لله لطفه ورحمته ، ولكنني مع ازدياد عدد المجانين وكُثر الذين أعرفهم على وجه التحديد صار وضعي أشبه بالمصعوق ، فكلما تفرّست في وجه مجنون أعرفه جيداً يتضاعف هلعي وقلقي إلى مستوى الإحساس أن الجنون أخذ يزحف نحو الناس زحفاً وأنني بلا شك واقع في ذات الفخ الذي نصبته سلطة الاحتلال للفقراء الجنوبيين ،.
وأعذروني على هذا التخصيص لأن ما يتردد عن إخواننا المجانين من الشمال أن منهم كُثر يعمل في الأمن القومي – يعني جنون ما هو بجنون وإنما وضيفة رسمية... يتلقّى صاحبها على دخل مغري . وآخر الكلام فأن المجانين الحقيقيين كما أرى ويروي الكثيرون من أمثالي أخذت أعدادهم تتزايد بسبب سياسة الإفقار الرسمية والتي أدت إلى تقزيم مداخيلهم وتالياً تضخيم ديو نهم وبنحو أثناهم من إتخاذ أي تدابير إلا من الاستمرار في الهمهمة ونتف شعر الرأس والتيه في فراغ المكان وما أخشاه هو إزدياد أعداد المجانين فيصيروا غالبية عظمى وعندئذٍ فأنهم لن يقبلوا بعاقل واحد بينهم ، فتبصّروا يا أُولي الأبصار قبل أن يقع الهشيم في النار .