على الرغم من كون الأديب الألماني غوته قد درس القانون أو فلسفة القانون في شبابه، وأعطى لهذا الضرب من المعرفة حيزا واسعا في تجربته، فإنه وإضافة إلى شعريته وإنتاجه المسرحي والروائي الثري، كان يعطي لفن العمارة دورا جوهريا في «تعليم الإحساس بالجمال» كما ذكر في كتابه العميق (الشعر والحقيقة) والذي هو بمثابة مذكرات لهذا العبقري «الرسمي» الذي أتحف الأدب وتاريخ الشعر بكل صنوف الابتكار الرفيع، المسرحي منه والشعري وكذلك النقدي. يستطيع الأديب الأوروبي، بصفة خاصة، وتحديدا منه المرتبط بالعصر الوسيط وما تلاه في عصر الأنوار، أن يتحدث بغزارة عن فن العمارة ودورها في تهذيب الحس بالجمال. أو اعتبار الحس بالجمال أمرا تعليميا يختص فيه التعود وذاكرة الطفولة. ذلك أن عمارة العصر الوسيط وعصر الأنوار كانت مصب حضارات الشعوب بأكملها ومنتهى ما وصل إليه المهندسون المعماريون من الشرق وآسيا وأفريقيا وأوروبا بطبيعة الحال. لقد أشار غوته إلى ضرورة أن يحاط الوعي الطفولي، منذ بدايته، بصور معمارية فذة، من كل جانب، تسهم في تدريب التلقي العفوي على مسألة الموازنة ما بين الثقل والارتفاع والتوازن. بصفة عامة، الإحساس بالجمال، مسألة غير قابلة للتعريف الدقيق أو النهائي، فهي تعود بنسبها إلى مزاج الشعوب وجغرافيتها واقتصادها وثقافتها. وكذلك الظرف السياسي هو الأصل في منح الجمال المعماري الزمن الكافي للإتمام، فمثلا لا يمكن بناء الأهرامات المصرية وسط اضطرابات سياسية وعسكرية مستمرة. لا، بل إن بناء الأهرامات كان دليلا قاطعا للاستقرار السياسي والعسكري. ومثله المساجد في العهد العثماني، سواء تلك التي بناها العثمانيون في بلادهم الأصلية، أو تلك التي انتشرت في بلاد الشام ومصر وبعض أوروبا الوسيطة، كان بناؤها في هذا الإتقان والجماليات صورة من صور الاستقرار وإشارة حاسمة إلى أن فن العمارة، والاستقرار السياسي، وجهان لعملة واحدة. حتى إن باحثا متخصصا بالأدب العثماني وله كتاب قيم في هذا المجال، وهو الدكتور والباحث يوسف عمر باشا، في كتابه «تاريخ الأدب العثماني» أشار إلى ولادة ما لكتابة مسرحية معينة تمتلك خصائص المكان المسرحي تتحرك فيه الشخوص. بحيث تتكون ولادة هذا الأدب المسرحي الأولية، بطبيعة الحال، من «مكان» وعمارة محددة الملامح، ثابتة ليس فقط في حيزها الجغرافي، بل بالوعي بها، وهي النقطة الأصل في تبادلية الوعي ما بين المكان والوعي المتلقي الذي عليه بنى غوته فكرته في دور العمارة بمنح الإحساس بالجمال والتعود عليه، وهو ما أمن لمؤلف «فاوست» رؤية مكانية متضخمة وصلت إلى درجة امتناع كثير من المخرجين من تحويل «فاوست» نص ممثل مسرح، بسبب إفراط غوته بتلغيز جغرافيا الحدث. ولما نقف عند ثنائية الاستقرار وفن العمارة، نجد أن العمارة، تلك، لن تظل مجرد مكان سكني أو ديني أو خدمي، أو مجرد كتلة متناسقة من شأنها منح المتلقي ذائقة جمالية عفوية بتوازنات الثقل والارتفاع، ومن ثم التزيين والتلوين، بل ستتحول تلك الكتلة الصماء إلى وعي الأنا نفسها، وسيتحول البيت إلى خزانة أحلام ومصدر مفتوح للاشعور والرحمية، كما يشير غاستون باشلار في «جماليات المكان» إلى البيت بصفته الحلم الذي تعود إليها الأنا الإنسانية دائما، حيث تتحول تفاصيله العمارية الخاصة إلى ركن ركين للأنا تولد الأحلام وكثافة الزمن، بحيث يتحول السقف إلى حارس، مثلا، لحماية القاطنين من عوائد الطبيعة، أما الجهة السفلية من البيت «البدروم أو القبو» فهي قرينة الأنا، قرينة الجزء الأعمى والمغرق في إلغازه وعتمته. هنا، يكون المكان الباشلاري هو الهوية، وهو تشكلات الأنا من الواقع إلى الحلم، أو العكس، كما لمحت عبقرية الفذ أبي تمام في بيته الشهير الذي يدمج ما بين الحلم والواقع في تيهانه الباحث عن أرض الأحبة أو أرض الذكرى عندما يقول:ثم انقضت تلك السنون وأهلها فكأنها وكأنهم أحلام. وللعلم، فإن للبيت روايات أخرى، منها ما يستبدل السنون بالديار، ومنها ما لا يستقيم معه الوزن الشعري فلا حاجة لذكره. ولعل لسابق شعراء العربية في كل لمعة وابتكار، المتنبي، عندما لمح إلى العودة العكسية التي يمثلها الحلم أو التذكر في استدعاء المكان الذي درس هنا وأصبح أثرا بعد عين إلا أن وعي الأنا الطفولي لا يزال يحتفظ به كما هو كما لو أنه لم يطرأ عليه أي تغيير يذكر:لك يا منازل في القلوب منازل أقفرت أنت وهن منك أواهل. بعد أن أتمت الأنا الطفولية المضلع الثالث مع الاستقرار والعمارة، تحولت هذه الفنون البصرية المدهشة إلى قوة رمزية تمنح الإحساس بالتفوق والقوة، فهي لم تعد مجرد بيت للسكن، كما يقول باشلار في جماليات مكانه، بل دائرة مغلقة تبدأ من اكتشاف الأنا وتنتهي باستعادتها، والأداة هي تلك الكتل الصماء التي عبرتها أنوات إنسانية وتحولت معها إلى هوية متبادلة، واحدة تمنح الأخرى سببا في الوجود، والثانية، تخلع عنها الصفة الوظيفية وتحولها إلى وعي مكثف بالزمن. وبالعودة إلى غوته فإن الإشارة إلى دراسته الحقوق كانت ذات مغزى عميق للغاية، فإن علم الحقوق مرتبط مباشرة بالعمارة لناحية الملكية والأرض، فلا عمارة أو حضارة عمرانية من دون قوانين ناظمة سواء من ناحية الفصل ما بين الملكيات الفردية، والملكيات العامة أيا كان اسمها وقفا كانت أو إقطاعا أو حكومية رسمية. من هنا فإن إشارة هذا الألماني العتيق إلى دور العمارة في تأسيس تذوق الجمال، هو في أساسه وعي حقوقي يجعل من قوانين الملكية شريكة مضاربة للعمارة والطفولة بتذوق الجمال، وربما هو ما قام به ابن خلدون من ربط العمران بالتمدن ونقض الهمجية، إنما دون إشارة إلى مضمون حقوقي معين. وللتأكيد على الدور البنائي لغوته، وإلى أي حد وصل معه الأمر، هو عندما تظلم للقراء من سطوة الكآبة التي يصنعها الشعر الإنجليزي على نفوس الشباب الألمان، مما دفعه للمطالبة بإيقاف ترجمة الشعر الإنجليزي الكئيب إلى اللغة الألمانية! ما يؤكد على بنائية هذا المفكر وإيمانه بالتدخل المفتوح حتى ولو على مستوى منع ترجمة شعر أو السماح بسواه. بقلم:عهد فاضل هذا الأمر لم يحصل في بلدان الاشتراكية العربية، بل حصل على العكس، فقد استولت الدولة الاشتراكية مثلا على الأملاك الخاصة، وكذلك بادرت إلى هدم الآثار التي تشير إلى الحقبة الاستعمارية ومنع التحدث بلغتها، والعمارة التي نجت من التدمير غير المباشر تم فرض الإهمال والعزل عليها حتى تحولت بيوتا للنحل والساعيات الأرضية وذات الجوانح. أو أن الدولة استولت على الملكية الخاصة وحولتها مكاتب يشغلها الموظفون الرسميون، كبناء وزارة الثقافة في دمشق، الذي هو فيللا بعدة أدوار لإحدى العائلات الدمشقية العريقة وقد تم الاستيلاء عليها بعد ثورة عام 1963 وهي من العمارات الجميلة التي تم بناؤها على الطراز الفرنسي مع تركيز على الشرفات الدائرية الواسعة تتخللها أعمدة عالية بسقوف مرتفعة. ومثل بناء وزارة الثقافة الكثير من المؤسسات الرسمية التي حلت محل أهلها الأصليين. كل بلدان الاشتراكية العربية استولت على كثير من عمارات العصر الاستعماري لأسباب آيديولوجية صرفة. وكثير منها تعرض للتخريب بسبب الإهمال وعدم الصيانة، فماتت أشجارها ويبس عشبها وتساقطت شبابيكها وتخلعت أبوابها وتشققت جدرانها وبعضها لا تزال أساساته تغوص في التربة ولم يسقط! وللمفارقة، فإن الزلازل التي تضرب مناطق الاشتراكية العربية السابقة لا تسقط منازل الطبقة الثرية التي تم الاستيلاء عليها، بل تسقط فقط البيوت الحديثة التي تم بناؤها في عهد الدولة الوطنية الحديثة والإسكان الشعبي مفرط الإهمال وسريع الانهدام. والبديل الحالي سكن شعبي أو نصف شعبي، أو يسمى جورا وظلما كسكن رفاهية، بينما هو في حقيقة الأمر يفتقد كل مواصفات الحس الجمالي الذي تعشقه الهندسة العمارية، وما نراه في سكن الرفاهية لا يختلف عن السكن الشعبي أو رخيص القيمة، لناحية الجانب الوظيفي المفرط المتعلق بالإيواء لا أكثر، أما الجانب الجمالي فلا يتعدى كونه شرفات متأنقة تخفي تخطيطا ركيكا يحس به كل مستخدم غررت به الدعاية التجارية. فقدت العمارة العربية دورها الذي أراده غوته لتهذيب الإحساس بالجمال، وحل محلها العشوائي والشعبي أو الركيك، أو حلت محلها تصميمات مستحدثة منقولة، لا تربطها كبير صلة مع أنا «باشلار» بأي شكل من الأشكال. ولم يعد المكان نقطة التقاء ما بين الوعي الطفولي والحلم، بل يحس كثير من أبناء المدن الحديثة العربية كما لو أنهم في إقامة فندقية تخلو من حميمية التشارك الاجتماعي. كذلك فإن التخطيط العمراني غلبت عليه الصفة الوظيفية المباشرة فأصبحت العمارة مأوى فقط ومكان سكن لا أكثر. أما البقية الباقية من جماليات العمارة ودورها في التدريب على الإحساس بالجمال فلا ينطبق عليها إلا ما أسلفنا به عن المتنبي: «..أقفرت أنت!».