تبدو لي هذه الأيام ((دبة الماء)) كجزيرة الكنز الشهيرة ((Treasure Island)) الرواية الشهيرة التي يتصارع فيها القراصنة , يتآمرون , يقتل بعضهم بعضا من أجل ذلك الصندوق. "خمسة عشر رجلا ماتوا من أجل صندوق" ..هنا خمسة عشر رجلا أو ربما أكثر من هذا الرقم..قد فضحتهم كل التقارير والحقائق ..وهاهم لا يزالون يسلبون المواطن لقمة عيشه وكرامه حياته.في الرواية الشهيرة يتحالف القراصنة جميعا..ضد القبطان ((بيلي بونز)) الذي يمتلك خريطة كنز القرصان العظيم "فلنت" , يرسلون له ((black spot)) أي تلك العلامة السوداء((وصمة العار)) التي إن وصلت أحدهم يعني ذلك أن نهايته حانت قريبا..في واقعنا اليوم يتحالف الجميع ضد إرادة شعب عظيم سلبوه ببشاعة أبسط حقوقه من قبس ضوء أو ((دبة)) ماء على الأرجح ! . في نفس الرواية يبدو لنا ((جون سيلفر)) طاهي البحر ..ذي الإبتسامة الساحرة والكاريزما القوية ..ربما يتعاطف معه الجميع لإعاقته الجسدية ..تلك الإعاقة و الإبتسامة التي يخفي ورائها روح قرصان يلهث وراء الأرض والكنز..يعمل كل شيء.."التآمر..الانقلابات..القتل" من أجل الوصول إلى غايته..في الواقع..ذات القرصان نهب الأرض والكنز مستعينا بكل الطرق الممكنة والمبتكرة..ومستمرا في بطشه هذا بوجوه وأساليب متجددة..يمضي في رحلته نحو الكنز والمزيد منه..رحلة لن يباركها الله..فهي تناقض تعاليمه وتغرس لأعوام ممتدة من الظلم والعبودية.((دبة الماء)) هي الكنز هذه الأيام..لن يمل المواطن(س) من الإستمرار في البحث عنه ..أو انتظاره..يغلق (س) من الناس عينيه كل مساء حالما بالوطن ((الكنز الحقيقي)) ذلك الذي استنزفه القراصنة حولنا لكنهم لن يفلحوا في إستنزافه من الحلم الذي يؤمن به الجميع هناهنا ندفع ثمن "الكنز الحقيقي" ..حلم ذلك الوطن بداخلنا ..ذلك الذي لن نتنازل عنه مهما أشتدت وعورة رحلتنا للبحث دبة أو رشفة ماء ..
يومٌ حافلٌ بالعطش :
((جاء الماي)) , ((انقطع الماي)) , لصوا الدنمة(( الشفاط)) طفوا ((الشفاط)) جيبوا ((بوزة)) ,((حطوا بوزة)) , ((شلوا بوزة)) هي العبارات الأكثر شعبية وتداولا في الواقع اللحجي اليوم , مافيش((مهرة)) مع المواطن البسيط سوى الركض واللهث اليومي لسد رمق أبسط احتياجاته , تعاني لحج المحافظة , وحوطتها العاصمة أزمة خانقة بسبب الانقطاعات المتواصلة للمياه . "الماي جنبي وأنا ميت ظمأ" في الحقيقة لم يعد هناك ماء بجنبي ولم تعد الأرض ((الخضيرة)) تزهو بخيرها الوفير , لا مطر , لا سيل , لا وادي , لا دفر ليس هنا سوى عطش , نقضي يوما وراء آخر حافلا بأشياء كثيرة على راسها العطش ومزيدا من العطش لا غير ! .
رصيد معاناة مكتظ :
شكا مواطنون ((لعدن الغد)) يسكنون حارات مختلفة من حوطة لحج وضواحيها من أزمة خانقة لمياة الشرب عصفت بحياتهم في الأسابيع القليلة الماضية . امتدت جذور هذه الأزمة للسنوات القليلة الماضية بينما يعاني الكثيرون ممن يقطنون الضواحي من الإنقطاع التام لمياه الشرب رغم مناشداتهم وشكاويهم المستمرة للجهات المختصة لكن ولا من مجيب . تتحدث إحدى ربات البيوت عن معاناتها:تقريبا في الأسبوعين الماضيين كنا نشتري الماء بشكل يومي , نظرا لظروف العيش الصعبة كان الماء في قائمة الميزانية ,كثيرا ما نضطر لعدم شراء مواد غذائية أساسية وذلك من أجل شراء الماء " . أشار البعض إلى أن أزمة المياة الخانقة خلقت عندهم تأقلم وتكيف غريب رغم يقينهم أنهم مواطنون من الدرجة تحت الصفر , لكنه الموجود كما يقولون ولا يوجد بديل !
أضاف آخرون ((لعدن الغد)) : " تصل أسعار ((بوز الماء)) الى الفين أو ثلاثة ألف وكونه عصب الحياة اليومية لا نملك سواء الشراء بصمت , حاولنا أن نشتكي للجهات المختصة ولمكتب المحافظ والسلطة المحلية لكن لم يكترث بنا أحد " . وقال مواطنون يسكنون أطراف مدينة الحوطة: " هل تصدقون أنه ولأكثر من أربع سنوات لم نرى المياه في بيوتنا ولا أدري لماذا تصلنا الفواتير بشكل منضبط " .
وفي سؤال وضعته ((عدن الغد)) للمواطنين : هل هناك من إجراءات أو خطوات عملية تفكرون بالقيام بها للخروج من الأزمة ؟ رد البعض بقوله : "كم صحنا محد يسمع واليد الوحدة ما تصفق , كفاية صمت وسكوت عن المطالبة بحقنا المشروع بماء نظيف دون تعب ومشقة يومية بس فين العقلاء ؟ " وأضاف آخرون: " ايام الحزب كانوا يحترمونا تدور سيارة وتقول للناس بنقطع عليكم المياه , كانت معاناة لا تذكر تخفف عنها أمور كثيرة كانت منضبطة وجميلة ..حتى المعاناة زمان كانت تجي لنا على طبق من احترام , أما اليوم ما فيش احترام للإنسان ولا شيء الله يجازي من كان السبب ! وقال آخر : " أصلا المحافظ والسلطة المحلية ما يشتروا بوز مثلنا كل يوم " وأشار البعض بسخرية : "موت ياحمار" !
(( واعاشور خلي السنة تدور)) :
وأنت تمشي بين الحارات العتيقة للحوطة , تلتقط صورا هنا وهناك , تبقيك مشاهدة الأطفال فيها على اتصال دائم وقوي بتراث المدينة وتاريخها , كنا أطفالا نخرج للشوارع نلعب بالماء حينما كان وفيرا وفرة أحزاننا اليوم : ((واعاشور خلي السنة تدور)) تقليد شعبي طفولي وفيرا بالماء في وقتها , حتى وجود الماء من عدمه يا سادة قد يسرق منا تقاليدنا وتراثنا الشعبي ذلك المتصل وبقوة بوجود الماء ليس كونه عصب الحياة الأول بل للإرتباط الوثيق بإسم ((لحج)) فهي أم السيل والوادي والخضرة , والمحاصيل الزراعية التي كانت تصدر منذ الصباح الباكر لكل مكان , تتصحر ((الأرض الطيبة)) رويدا رويدا ونحن نرقبها ولا حول لنا ولا قوة !
مشروع وراء مشروع :
في أبريل العام الماضي 2013 شهد حقل مغرس ناجي أعمال ضخ تجريبي لثلاث أبار تم انجازها من قبل ضمن مشروع حفر خمس ابار لمياه الحوطة وضواحيها . تم المشروع للحد من الانقطاعات التي تشهدها بين الحين والأخر .سارعت منظمات أجنبية لتمويل مشاريع عديدة لتحسين الظروف المعيشية لسكان لحج وقراها .
ميزانيات ترصد وأخرى تذهب أدراج الريح , المواطنون هنا لا يطالبون بأكثر من حقيقة وشفافية : أين تكمن أزمة المياة بالضبط ؟ أين تذهب خيرات المشاريع وحقيقة الميزانيات التي تقدر بالملايين ؟ لماذا لا تثمر الجهود ((إن وجدت)) لتخفف بعض المعاناة للمواطنين البسطاء ؟ ما موقف المحافظ والسلطة المحلية ودورهم تجاه كل ما سبق ؟ أسئلة عديدة ومتشعبة تضعها ((عدن الغد)) أمام الجميع ولمستها تخرج بألم من أفواه العطشى البسطاء .
لحج تشرب من الأمل : يتحدث المواطنون هنا عن معاناتهم بمرارة بينما أحدثهم بالمقابل دوما عن الأمل , حينما نفقد حياة حافلة بالحياة , يبزغ من قاع اليأس خيط أمل دعونا جميعا نحافظ عليه ونحميه ألا ينقطع يوما ما فيهوى بنا إلى أبعاد أخرى من البؤس لم نكتشفها بعد ! هل تكفي السطور التي نكتبها لتغير واقع مرير تنتقل الصور فيه تباعا لنعلب تارة دور الضحايا وتارة دور الجلاد ..
إنها لحج يا سادة , وطن تتأمرون عليه جميعكم من حيث لا تعلمون , فالصمت والرضا لا بل القناعة والإكتفاء بما نحن عليه الآن هي المؤامرة بعينها , كلما زاد فساد المفسدين وغيهم زاد منسوب الرضا والقناعة فينا , إذن هي علاقة طردية منذ زمن , علاقة أثمرت لنا واقعا لايمتلك أدنى مقومات الحياة الإنسانية الكريمة , واقع غير صالح للعيش ولكننا نعيش فيه ونستمر بالحياة , برضا وقناعة وقبول مستمرين , ألسنا إستثناء !
نختتم سطور المعاناة التي يكابدها بصمت المواطن اللحجي البسيط بفقرة تعود الى حوالي 48 عاما مقتبسة من الاستطلاع المصور لمجلة العربي الكويتي التي زارت بعثتها لحج في العام 1965م وجاء فيها :
((وارض لحج منبسطة قرب عدن , ولكنها تأخذ في الارتفاع كلما اتجهنا شمالا صوب اليمن , لتتحول الى جبال مرتفعه تفصل بين اليمنولحج... وفي شهر أغسطس وسبتمبر من كل عام, تتساقط الأمطار غزيرة على هذه الجبال فتندفع على هيئة سيول في مجرى واحد كبير يعرف بوادي تبن ... وتستمر هذه السيول في اندفاعها حتى رأس الوادي حيث تنقسم الى فرعين : الوادي الكبير ,والوادي الصغير .وعند رأس الدلتا كان يقوم سد ترتبي هزيل ما تكاد السيول تندفع نحوه حتى تجرفه في طريقها .. وفي عام 1995م قامت "لجنة الإنعاش" ببناء سد كبير مكانه كلفتها 55الف جنية, ليتحكم في توزيع مياه السيول على الفرعين, وعلى القوات الثلاث التي تروى وسط الدلتا وجانبيها .وكثيرا ماتقل الأمطار وتتوقف السيول ,ولكن ارض لحج تتميز بمياهها الجوفية الغنية, فما يكاد صاحب الأرض يحفر بئرا حتى يندفع الماء بكميات غزيرة...وقد تم حتى ألان حفر 400 بئر صغيرة, قلبت نظام الري القديم ,الى ري مستديم .مما يذكر ان عدن وضواحيها تشرب من ماء أبار لحج الذي ينساب من 24بئرا ارتوازية, تعمل عليها المضخات بلا توقف ليلا ونهارا لسد حاجة عدن من الماء ,ويبلغ 60 ألف جالون يوميا ,يمتدان بمحاذاة الطريق البري الوحيد الذي كانت تسير عليه قوافل الجمال منذ ألاف السنين )) .