كتب / أحمد رجب جددت الضغوط الاقتصادية الناجمة عن تداعيات الثورات العربية على اقتصادات دول منطقة الشرق الأوسط، الجدلَ حول فلسفة الحدود المُثلى لتدخل الحكومات في النشاط الاقتصادي، فمن ناحية أولى، تدفع مجموعة من العوامل الموضوعية تتصل بالنواحي النقدية والمالية والتشغيلية في اتجاه تبني موجةٍ جديدةٍ من سياسات الخصخصة في منطقة تعيش حالة متفردة من أنماط إعادة التشكل، ومن ناحية ثانية، تحول حزمة ضاغطة من المؤثرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية تتعلق بتجارب الخصخصة غير الناجحة في المنطقة دون تبلور هذا الاتجاه في الأجل المنظور، وما بين هذين المتغيرين، تبرز العديد من التجاذبات القائمة على الأرض تعمل على تعميق الحاجة لدورة أخرى من سياسات الخصخصة الفائتة، ولكن هذه المرة بملامح مُحدثة تناسب طبيعة المرحلة الحرجة القادمة.
دوافع متجددة:
برزت سياسات الخصخصة كإحدى أولويات الأجندة السياسية لدول الإقليم منذ ثمانينيات القرن العشرين، ضمن برنامج أوسع لتعزيز التوجه نحو اقتصاد السوق الحر، وقد كان للمغرب السبق بين دول المنطقة في اعتماد سياسة تحرير النشاط الاقتصادي عام 1999، وقد اتبعت السياسة نفسها بعد ذلك مجموعة متنوعة من دول المنطقة كان من أهمها مصر وتونس والأردن عام 2000، لتقوم بعد ذلك لبنان وعمان والسعودية ببعض عمليات الخصخصة المتفرقة عام 2002، ثم بدأت الحكومة الليبية في عام 2005، وبعد عقود طويلة من العزلة العالمية، في تحرير بعض الأصول العامة.
ورغم هذا الانتشار الواسع، لم تكن حصيلة الخصخصة في دول المنطقة مرتفعة، فبحسب بيانات البنك الدولي، بلغ نصيب إقليم الشرق الأوسط وشمال إفريقيا نحو 7% فقط من إجمالي قيمة عمليات الخصخصة في العالم خلال الفترة ما بين عامي 2000 و2008. ومن ضمن هذه الحصيلة المتردية استحوذت كل من مصر والمغرب على أكثر من 60% من القيمة الإجمالية، وعلى المستوى القطاعي استأثر قطاع البنية التحتية -وبدرجة أقل القطاع الخدمي في الاتصالات والبنوك- وحده على نسبة تزيد عن 50% من مجموع عوائد عمليات الخصخصة في المنطقة، فيما تفاوتت أهداف سياسة الخصخصة داخل الإقليم؛ حيث لم يتعدَّ الهدف من تطبيقها في دول النفط الغنية تحسين كفاءة وخفض تكلفة تقديم الخدمات العامة، بينما اعتمدت الدول غير النفطية المتعثرة على عوائد الخصخصة في ضبط مؤشرات ماليتها العامة.
الآن، وبعد فترة من الهدوء الحذر تجدد النقاش حول ملف الخصخصة الشائك؛ حيث كشفت الاضطرابات اللاحقة للثورات العربية كثيرًا من التشوهات البنيوية التي تحاصر معظم اقتصادات الإقليم بالذات في الدول غير النفطية، وبما فتح الباب مرة ثانية أمام جدلية تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي. فمن جهة أولى، يرى كثير من الاقتصاديين في تعديل هيكل القطاع الحكومي ضمن برنامج أشمل ضرورة عاجلة لأي خطة إصلاح اقتصادي تهدف إلى تحسين مناخ الاقتصاد الكلي، وزيادة معدلات النمو الاقتصادي، وتحقيق استقرار النشاط الاقتصادي، ومن ناحية ثانية؛ أصبح القطاع العام المتضخم في أغلب دول المنطقة يمثل عبئًا متزايدًا على كاهل الحكومات المتأزمة بسبب انتشار مظاهر انخفاض الكفاءة الإنتاجية في وحداته، مع ارتفاع تكاليف إدارته.
وعلى جانب ثالث، ونتيجة ضعف ظروف المالية العامة في أكثرية دول الإقليم بسبب انحسار الائتمان المتاح، وتراجع عائدات الضرائب، وارتفاع تكاليف تمويل برامج التحفيز الاقتصادي؛ أصبحت عوائد دورة جديدة من خصخصة الأصول العامة غير المستغلة وسيلةً مقبولة لخفض معدلات الديون العامة في الاقتصادات المتعثرة. وعلى صعيد رابع، تضع بعض المؤسسات المالية الدولية -وخاصة مؤسستي بريتون وودز- التطبيق الجاد لبرامج إصلاح القطاع العام شرطًا مسبقًا للحصول على أية معونات مالية وفنية. وعلى نحو خامس، تعتبر زيادة حصة القطاع الخاص في الناتج المحلي محفزًا هامًّا ليس فقط لتنويع القاعدة الإنتاجية، بل أيضًا لرفع كفاءة وتنافسية الاقتصاد القومي.
تجارب قاصرة:
كتقييم موجز لتجربة الإقليم في مجال الخصخصة، يمكن رصد شيء من النجاح في بعض الجوانب المتعلقة برفع معدلات النمو الاقتصادي، وخفض عجوزات الموازنة العامة، وزيادة مساهمة القطاع الخاص في الاقتصاد القومي، وتحسين مناخ الأعمال، واطراد الاستثمارات الأجنبية، ورفع متوسط دخل الفرد، وخفض معدلات الفقر المدقع، لكن في المقابل يمكن ملاحظة العديد من الأعراض الجانبية التي يمكن تلخيصها في الأبعاد التالية:
1- الأبعاد المتصلة بالكفاءة:رغم الترويج لسياسات الخصخصة كأداة لزيادة مساهمة القطاع الخاص في الناتج المحلي الإجمالي؛ فإن هذه السياسات لم تنجح في تقليص هيمنة القطاع العام على جزء مهم من النشاط الاقتصادي في معظم دول الإقليم. فبعد مرور قرابة عقد ونصف على بدء هذه السياسات، فإن القطاع الخاص يستحوذ فقط على ما لا تزيد نسبته عن 50% من الناتج المحلي الإجمالي للمنطقة، في المقابل يستأثر القطاع العام على أكثر من ثلث القطاع الرسمي، كما لم يرافق التغير النسبي في تركيبة توليد الناتج المحلي الإجمالي لصالح القطاع الخاص ارتفاع ملموس في إنتاجية وكفاءة وتنافسية الاقتصاد المحلي؛ حيث اعتمدت برامج الخصخصة على آلية بيع الأصول والممتلكات العامة -الرابحة- دون وجود استراتيجية واضحة لكيفية إعادة استثمار حصيلة الخصخصة في بناء قدرات إنتاجية بديلة، وكذا لم تؤدِّ عملية انتقال ملكية الأصول العامة إلى القطاع الخاص إلى زيادة رأسمال، أو تحسين أرباح، أو تطوير إنتاجية الشركات منقولة الملكية؛ حيث تشير تقديرات عديدة إليعدم توسع معدلات نمو الاستثمار في الشركات المخصخصة، سواء في صورة التجديد والإحلال، أو من خلال ضخ استثمارات جديدة لزيادة رأس مال هذه الشركات لتطوير قاعدتها الإنتاجية.
2- الأبعاد المتصلة بالمالية:تسببت عمليات البيع العشوائية في تبديد جانب كبير من أصول الثروة القومية في العديد من دول الإقليم؛ حيث اعتمدت خطة برامج الخصخصة المنفذة على بيع الشركات العامة الرابحة في البداية، ثم استخدام الإيرادات الناتجة في إعادة هيكلة الشركات الخاسرة، ومن ثم بيعها، الأمر الذي أدى إلى خسارة مزدوجة، سواء فيما يتعلق ببخس تقييم أسعار الأصول الرابحة من جهة، أو بإهدار المال العام على تطوير الأصول الخاسرة دون القدرة على بيعها من جهة أخرى. في الوقت نفسه لم تسهم عوائد الخصخصة المتزايدة -رغم ضخامتها- في معالجة العوار الهيكلي المزمن في البنية المالية لمعظم اقتصادات الإقليم، وبالتحديد فيما يتعلق بترشيد مصادر عجز الموازنة العامة، والمتمثلة في الدعم، والأجور، وأعباء خدمة الدين العام؛ حيث تم إهدار معظم حصيلة الخصخصة على أوجه إنفاق استهلاكية، سواء لتقليص عجز الموازنة الهيكلي المتصاعد، أو في سداد أعباء الدين العام بنوعيه المحلي والخارجي، أو لإعادة هيكلة مؤسسات القطاع العام ذاته، وبالأخص الشركات القابضة، أو في صورة حصص مشاركة للبنوك العامة، وشركات التأمين، باعتبارها جهات مالكة للمال العام، أو لتمويل البرامج المالية التوسعية الهادفة لتحييد الآثار الاجتماعية السلبية لبرامج الخصخصة، مثل برامج تمويل المعاش المبكر.
3-الأبعاد المتصلة بالتشغيل:تؤثر سياسات الخصخصة بشكل مباشر على توزيع الموارد المتاحة للاستثمار؛ إذ إن توجيه موارد القطاع الخاص لشراء الأصول العامة يؤدي بالضرورة إلى قطع الطريق على تنفيذ استثمارات خاصة جديدة، بمعنى آخر فإن عملية الخصخصة تقوم بتوجيه موارد القطاع الخاص نحو تمويل تداول أصول قائمة بالفعل، وبما قد يدفع الاقتصاد إلى حالة من الركود؛ إلا إذا قامت الدولة باستخدام حصيلة الخصخصة في بناء مشروعات إنتاجية جديدة، وهو ما يتناقض في حد ذاته مع فلسفة تقليص الدور الإنتاجي المباشر للدولة، وبالتالي يكون من المرجح أكثر أن تخلق الخصخصة ميلا ركوديًّا في الاقتصاد في المدى المنظور على الأقل، الأمر الذي يؤدي، ضمنًا، إلى رفع معدلات البطالة في الاقتصاد، وذلك نتيجة قيام الإدارات الجديدة للشركات المخصخصة بتخفيض مستويات التشغيل، واستخدام أساليب جديدة للإنتاج أكثر كثافةً في استخدام رأس المال، بالاعتماد على نظام المعاش المبكر الاختياري لتسريح العمال، باعتباره أحد أسهل وسائل علاج العمالة الزائدة في الشركات، في حين لم يتم الاهتمام بآليات التدريب التمويلي، وإنشاء المشروعات الإنتاجية للعمال المحالين للمعاش المبكر، وهو ما أسفر عن تضخم معدلات البطالة طويلة المدى في الاقتصاد، وتوسيع فجوة التفاوت المادي بين الطبقات الاجتماعية المختلفة.
خلاصة القول، إن إعادة إنتاج دورة جديدة من دورات الخصخصة في منطقة الشرق الأوسط يعتمد على تفاعل مجموعتين من القوى المتجاذبة المتصلة بعوامل حقيقية على الأرض، والتي إما أن تؤطر لموجة جديدة بالكامل من سياسات الخصخصة، أو أن تطور ملامح الموجة السابقة، وما يتناسب مع طبيعة المرحلة القادمة، وفي كلتا الحالتين يجب أن يتم التوقف عند بعض القضايا المحورية علي غرار شكل وطبيعة النظام الاقتصادي طور التشكل في منطقة الشرق الأوسط في مرحلة ما بعد الثورات العربية، وحدود دور الدولة الإنتاجي في مقابل التزاماتها الاجتماعية بتوفير السلع الأساسية، واستراتيجية عمل الحكومة لتحديد ماهية الأصول العامة التي يمكن خصخصتها وتحت أي ظروف، والإجراءات التعويضية التي يمكن أن تتخذها الحكومات لتعويض الفئات الأكثر تضررًا من جراء تبني موجةٍ أخرى من موجات الخصخصة، والتكلفة الاجتماعية المحتملة لموجة جديدة من بيع الأصول الحكومية. عن /المركز الاقليمي للدراسات الاستراتيجية