أسوأ عادة يمكن ان يصاب بها الفرد هي ؛ ملاحقة الاخبار ليل نهار في أوطان اختلط حابلها بنابلها وعاليها بسافلها، ونشبت فيها معارك مختلفة لا تحصى بين الأهل والأهل وبين المسلمين والاسلاميين وبين الجهاديين والمجاهدين وبين أولئك وهؤلاء.. وهكذا.اكثر الأزمنة قمعاً للعقول نسميها حاضرنا.. هذا الذي أنجب عجينةً أسطوريةً من المفاهيم الجديدة : الثورة والإرهاب يتتوأمان سيامياً على ارضية واحدة، والنضال من اجل الليبرالية يتواكب حثيثاً مع الرايات السوداء على طريق الخلافة إلاسلامية... ثقافة جديدة حيث الديمقراطية شعار ينبت من بين مفاصل الصراعات الطائفية ونزاع المذاهب، والربيع ينجب مليشيات تتناحر باسم الله وباسم الوطن والثورة..
اكثر من هذا : السعودية التي حشدت كل مجاهدي الارض الى أفغانستان، ثم استراحت ثم فكّرت وكررت فأرسلتهم الى سوريا الشقيقة، الاكثر شقاوة، تعلن للعالم ان كل من دعمتهم وجمعتهم في الماضي البعيد والقريب وفي الحاضر أصبحوا في الحقيقة إرهابيين. اكتشاف مذهل اذاً، لكن بعد خراب البصرة ( كما يقول العراقيون) . لقد تغيرت الدنيا وتغيرت التحالفات والمصالح وستتغير هيئة الامر بالمعروف وألوان الشمّاغات وطول اللحى ونكهة العطور ومجامر العود الهندي وكذلك نبرات الزيّاني.. وستتغير ديباجات الخطاب وهمهمة المستمعين.
امّا دولة قطر، ارض الامير العبقري المتنازل عن عرشه وعن نشرات الاخبار لولده، وأرض الأميرة السيندريللا والقواعد العسكرية الامريكية وأرض الجزيرة والغاز ( وليس الغال ) التي ينقلب فيها الأبناء على آبائهم انقلاباًورديا، بالحيلة او بالتراضي، فهي حامية حمى الحرية في بلاد العرب ومصرَّة على تحرير الشعوب من حكامها عن طريق تدمير الدول والجيوش وإعادة صياغة المجتمعات والأوطان على النمط الأموي ليعود صقر الدوحة أميراً للمؤمنين قبل بداية بطولات كاس العالم لكرة القدم فيها.
وتركيا بقايا امبراطورية كانت صاحبة أسوأ تاريخ ظلامي هيمن على العرب قروناً من الزمن وقضى على ظاهرة التمدن المكتسبة من زمن المدّ العربي الاسلامي الذي سبقها، تسعى لمركزة نفسها وسط محيط الربيع المنفلت.والعجب الاكثر في سوريا، هناك يقف الغرب وإسرائيل والإخوان والقاعدة والليبراليون الجددفي جبهة نضالية واحدة لنشر الحرية بعد تدمير الدولة والتاريخ والجغرافيا. وفي تجلّي حضاري فريد جداً لظاهرة الاختلاط الغير شرعي يتلقى جرحى المجاهدين في سبيل الله علاجهم في مستشفيات اسرائيل( حكم الضرورة) ويزورهم مسئولون في الدولة العبرية ليتفقدوا جراحاتهم وانينهم وهم رافعين شارة النصر باصبعين (اصبحت موضة قديمة) او الكف الصفراء بأربع أصابع دون إبهام، وهي احدث ابتكار اردوغاني ألهب شباب الاخوان والمجاهدين قبل ان يتفرغ للصراع المفتوح مع تيار فتح الله جولن صاحب سلسلة المعاهد العلمية الاسلامية في تركيا. في سوريا يتوحد الله وألوهيم ويهوه، في محاربة النظام العلوي العلماني ويرضى اليهود والنصارى عن المجاهدين المسلمين خلافا للآية القرانية (لن ترضى عنك...) .
اما اليمن فسأعفي القارئ لان الامر بالغ الوجع فهي منشغلة بترجمة مجلدات من أدبيات الحوار في ظل البواريد والمليشيات والثوار والطوائف والأقاليم وعليها فصل سابع ولها ملحق مفتوح للمرحلة الانتقالية وتعاني من صداع مزمن، (مطعفرة) عارية بائسة، فالكهرباء لحالها تحتاج لدولة اضافية وجيش وطني جرار يحميها، فما بالنا بالمعضلات الاكبر، كان الله في العون.
الغرب الذي غرس في مجتمعاته ثقافة العداء للإسلام وتصويره كرديف للتخلف والإرهاب فانه استجمع شجاعة العصور ليؤيد بصرامة مذهلة فكرة الخلافة الاسلامية وريادة الاخوان كطلائع لتحرير العرب من الدكتاتوريات ومن اليسار والعلمنة دفعة واحدة. وربما يسعى الغرب لتطبيق مقولة برناند لويس: "اذا تُرك العرب لحالهم فانهم سيفاجئون العالم بجيوش من الإرهابيين لتدمير الحضارة العالمية ولهذا يجب استغلال كل مصادر الصراع السياسي والعصبي والطائفي والعشائري لتمزيقهم"... ربما لهذا يدعمون الاخوان لقلّة حيلتهم في الحكم وازدواجية خطابهم السياسي الموزع بين العقيدة والمصلحة، وعدم اعترافهم بالدولة الوطنية فيسرعون بالسعي لإنشاء كيانات غريبة هشة قابلة للتمزق.
كل تلك المفارقات تنعكس يوميا في صراخ المانشتات الخبرية، وجبال من الورق وفضاءات الكترونية، وتتناسل آلاف العجائب حتى يكاد المرء يعتقد بانه امام حفلة زار كونية يقودها جند من المشعوذين او كأنهم أصيبوا بنوع من الحميّات الفضائية الغريبة . ربما ! فكل شيء جائز في هذا الزمن .
عصر الفضائيات والأخبار والفيسبوك يضع الناس على مقهى كوكب الارض يثرثرون ويتجادلون ويتعاركون وينشرون كل اوجاعهم . فمن يتمرغ في مستنقعات الاعلام سيفقد بالتدريج ناصية رأسه وبوصلة العقل ليتأرجح سيكلوجياً بين حسن التشاؤم وسوء التفاؤل غارقاً في دوامة محيطية عملاقة لا تنتهي. هي مرحلة يغيب فيها الفكر والمفكرون ويظهر للسطح مروِّجون وتجّار دين وباحثون عن السلطة والغنائم السهلة. لكن الايام ستمضي عاصفةً !