كان الثاني والعشرين من مايو 1990م انتصاراً تاريخياً للمشروع الوطني الذي حلمت به الحركة الوطنية اليمنية منذ أربعينيات القرن العشرين, وكانت فرحة اليمنيين في الجنوب والشمال بهذا اليوم التاريخي مزيجاً من الحلم والأمل, الحلم بوطن جديد لا مكان فيه للظلم والقسوة والجبروت,وطن لمواطنين أحرار متساوين شركاء في تعيين حاضره ومستقبله, وكانت التطلعات والآمال في بناء المجتمع الجديد القائم على العدل والحريات والرخاء الاقتصادي والاجتماعي. لقد كانت هذه التطلعات تقوم على واقع التجارب الشطرية التي عجزت عن تحقيق التنمية التي تكفل الحياة الكريمة للمواطنين وإهدار الموارد في التسلح والحروب الداخلية او بين الشطرين. إن اقتران الديمقراطية والتعددية بالوحدة كان يوفر شروطاً ملائمة لبناء المشروع الوطني الديمقراطي القائم على الدولة المؤسسية والقانون واحترام المواطنة وحقوق الإنسان, لاسيما وأن دستور دولة الوحدة رغم نواقصه الكثيرة يعطي للمواطنين حقوقاً كثيرة ويحد من الفردية والتسلط, غير أن أطرافاً نافذة في السلطة لم تكن تؤمن بهذا المشروع الوطني الكبير,فوضعت العراقيل في طريق تنفيذه منذ البداية. كانت عبارة الأخذ بالأفضل من النظامين الشطريين هي الاتفاق الأكثر غرابة وتعويماً, فقد مثلت هروباً من مفاوضات كان يجب أن تأخذ مساحة كبيرة من الزمن للاتفاق على أسس جدية لبناء دولة النظام والقانون والشراكة الوطنية والمواطنة. فقد كان يمكن للندية بين شريكي الوحدة أثناء المفاوضات ان تكون جديرة بتعويض العجز الواضح للقوى الحديثة الطامحة إلى بناء الدولة وتحديث المجتمع.إذ لم يكن ميزان القوى الاجتماعية في الظرف التاريخي الذي تحققت فيه الوحدة لمصلحة مشروع الدولة الحديثة, فالبنى الاجتماعية الجديدة المرتبطة بالقطاعات الاقتصادية الحديثة وما يرتبط بها من طبقة وسطى ومجتمع مدني أضعف بكثير مقارنة بالبنى التقليدية التي كانت تغري أصحاب القرار والنفوذ بالانحياز إلى قوتها مؤقتاً,حتى جرى تسييج هؤلاء لأنفسهم بحزام من العسكر يصل إلى درجة التماهي. هكذا كانت الفترة الانتقالية عبارة عن صراع غير متكافئ لإغلاق المجال السياسي الذي فتح بعد الوحدة, على الأقل في السنة الأولى من عمر الوحدة,وكان الجدل الحاد قبيل الاستفتاء على الدستور يمثل حالة مفتوحة من حالات الانقسام الاجتماعي حول هوية الدولة, ومع ذلك يصعب القول في ن هذا الجدل كان يمثل فرزاً اجتماعياً واضحاً على أساس تحديد توجهات وطبيعة النظام السياسي,إذ أخذ الجدل منحى عقائدياً باقتصاره على مادة دستورية حول موقع الشريعة من التشريع, وهو ما جرف معه قوى من منازع شتى كان يمكن أن تجهض الاستفتاء لولا تدخل الدولة بكل ثقلها إلى جانب نعم للدستور. اليوم أيضا يصعب تحميل البنى التقليدية وحدها مسؤولية تعثر بناء الدولة,وربما هي في موقع لا تستطيع فيه أن تمنع ذلك,ثمة شريحة من الفاسدين وأصحاب النفوذ في مفاصل السلطة هي اشد عداء للدولة, إذ لا ينمو الفساد إلا في بيئة لا يطبق فيها القانون, ولا سلطة للمؤسسات. جرت أول انتخابات تشريعية عام 1993م وأعقبتها مباشرة الأزمة بين شريكي الوحدة, والتي قادت إلى حرب أهلية في صيف 1994م, كانت نتائجها كارثية وتداعياتها المريرة لازالت مستمرة.لقد قادت هذه الحرب إلى القضاء على الشراكة الوطنية والمشروع الوطني الديمقراطي,بل وغيبت مضامين الوحدة السلمية في 22 مايو 1990م. لقد جرى الانقضاض على الدستور المستفتى عليه بعد أيام من وقف الحرب, وعدلت غالبية مواده وسلبت حقوق كانت بين أيدينا وإذا بنا أمام دستور جديد يمنح سلطات مطلقة للفرد على حساب المؤسسات ويفرغها من مضامينها. هكذا " استعادة السلطة الفردية وبصورة منهجية هيمنتها الاستبدادية مستدعية موروث الأزمة التاريخية بكل مكوناتها العصبوية ونزعاتها الاستعلائية الاقصائية ". نتائج هذه الحرب كانت كارثية على الوطن والمشروع الوحدوي برمته,. كانت أولى هذه النتائج هي سحق دستور دولة الوحدة واستبداله بآخر يمنح سلطات مطلقة لحكم الفرد على حساب المؤسسات, والنتيجة الثانية هي إلغاء الشراكة الوطنية, والانفراد بالسلطة والثروة, والثالثة هي إقصاء الجنوبيين وتهميشهم وسلب حقوقهم, فقد جرى تسريح قسري لأكثر من ثمانين ألف ضابط وجندي, وأكثر من 160الف موظف مدني, معظمهم من المديرين وكوادر الحكومة وبتعليق ساخر من أحدهم سموا "جماعة خليلك بالبيت" وجرى نهب منظم لأراضي الجنوب من قبل نافذين في الحكم بآلاف الكيلومترات ومازال النهب جارياً إلى هذه اللحظة, كما جرى الاستيلاء على قطاع الدولة بطرق غير مشروعة من قبل هؤلاء النافذين ولم تستفد خزانة الدولة من هذه الخصخصة ,ولا العمال الذين كانوا يعملون في هذه المؤسسات, بل ذهبت كلها الى جيوب هؤلاء الفاسدين .ولم تضمن الدولة للعمال حقوقهم فقد جرى رمي هؤلاء في الشارع وتحويل بعضهم عمالة فائضة لتنفق عليهم الدولة بدلاً من الملاك الجدد, كما جرى إذلال للعمال الذين بقوا في مؤسساتهم بأن تخلى الذين استولوا على هذه المؤسسات عن أي التزامات وتم طردهم بعد شهرين فقط,. لقد سرقت شركة التجارة بعد تحويلها إلى المؤسسة الاقتصادية عام 2003م وهي تحت الحراسة, واليوم تم تحويل مؤسسة التجارة إلى المؤسسة الاقتصادية وقبلها مؤسسة الملح. مسلسل الفيد مستمر, وحالة الفقر والبطالة تزيد من آلام الجنوبيين وإحباطهم, إن وزراء وقادة عسكريين كبار ومدراء تقاعدوا في فترات سابقة يشعرون بالقهر والإذلال وهم يتقاضون رواتب لا تزيد عن عشرين ألف ريال وهم الذين وضعوا لبنات الدولة في الجنوب, فهل نلوم الذين يطالبون بالانفصال, أم نلوم السلطة التي مارست كل هذا العبث بحقوق الناس لتدفعهم دفعاً إلى حيث لا يريدون؟ إن هذه الحرب كانت انقلاباً على الوحدة السلمية ل22 مايو, وكرست سلطة استبدادية غاشمة دمرت النسيج الاجتماعي وخلقت شروخاً في جسم المجتمع لا احد يعلم كيف ستندمل. لقد كان 7/7م اليوم الذي أسدل فيه الستار على آمال اليمنيين في بناء دولة العدل والحريات والكرامة الإنسانية. كان الحراك السلمي الذي بدأ في بداية عام 2007م هو رد الفعل الطبيعي والقوي على سلوك السلطة, ورغم عفويته فقد بدأ قوياً واستمر في التصاعد, وقدم ما يزيد عن 90 شهيداً قتلوا لإثناء فعاليات سلمية ولم يشكلوا خطراً على قوات الأمن حسب تقرير هيومان رايتس في ديسمبر 2009م.هذا غير جرح المئات واعتقال الآلاف والمحاكمات والملاحقات مازالت جارية. لقد أوصل الحراك صوته إلى أرجاء المعمورة وتعاطفت معه منظمات حقوقية إنسانية معتبرة, هذا غير التعاطف الشعبي الكبير في الداخل, فالناس يشعرون بالقسوة والبشاعة التي يتعامل بها النظام مع أناس يطالبون بحقوقهم الشرعية,اليوم وان كان مطلب الانفصال مثار خلاف, فإن الناس لن يذهبوا هذه المرة معصوبي العيون ليقاتلوا من أجل إطالة أمد حكم "حول الدولة من مشروع وطني كبير إلى مشروع عائلي ضيق ".
المعارضة والقضية الجنوبية منذ أن وضعت الحرب أوزارها (حرب 94م ) لم يتوقف الجدل حول شرعية الحرب أولاً, وثانياً كيف يمكن معالجة آثارها؟. وفي العام الأول كان سيف الحرب مازال مسلطا على الحزب الاشتراكي وجرى التلويح بما يشبه "الاجتثاث" إذ كان الخطاب السياسي للسلطة يشير إلى أن بقاء الحزب على قيد الحياة في منظومة المعارضة يمثل مكرمة من مكارمه الكثيرة. وفي العام التالي طرحت فكرة المصالحة الوطنية, ولكنها لم تتبلور كمشروع لدى أي من أحزاب المعارضة., وقدمت الرابطة مشروعاً للحكم المحلي في العام 1997مم يلامس الحكم الكامل الصلاحيات إلى حد ما, وأجرت حوله حواراً مع باقي المعارضة غير أن المشروع لم يكتب له النجاح. كما لم يتبلور مشروع إصلاح مسار الوحدة كمشروع سياسي إلا في المؤتمر العام للحزب الاشتراكي عام 2005م, علماً أن الجدل داخل الحزب لم يتوقف حول هذا الموضوع, رغم الظروف الصعبة التي عاشها الحزب بعد الحرب.أما المعارضة موحدة وفي إطار كيان أوسع هو اللجنة التحضيرية فقد استطاعت التوصل إلى رؤية للإنقاذ الوطني في بداية العام الجاري 2010م وهو ما يمثل مرحلة جديدة في تطور المعارضة اليمنية وهي محاولة ترتفع إلى مستوى التحديات والظروف التي تمر بها البلاد في الوقت الراهن.
أين أخطأت المعارضة؟ نحن الآن بدأنا خطوات كانت ضرورية منذ زمن من اجل استعادة الوحدة الوطنية ومن أجل توحيد حركة المعارضة ضمن برنامج مشترك يضم اللجنة التحضيرية والحراك.ثمة صعوبات في هذا الطريق لأننا ببساطة تأخرنا. في الواقع التأخر عن إدراك بعض المشكلات الاجتماعية أمر طبيعي, لكن في الموقف من القضية الجنوبية أو أي قضية من هذا المستوى يكون للتأخير نتائج مكلفة, فالمعارضة لابد أن تملأ الفراغات بعلاقة دائمة بالهم اليومي للناس أن تعرف ميول وتوجهات الناس, إغفال هذا حتماً سيؤدي إلى بروز نتوءات يصعب السيطرة عليها. وبالمجمل أقول: إننا في المعارضة اليمنية كإخواننا في المعارضة في دول عربية أخرى.هذه هي منهجية العمل. في مصر كانت الأحزاب الرسمية المعارضة قد وافقت على تأجيل تعديل المادة 76 إلى بعد انتخابات 2005م, لكن بعد إعلان هذه الموافقة جاء الضغط الأميركي على الرئيس مبارك, فوافق على التعديل قبل الانتخابات وأجريت الانتخابات على أساس التعديل,بغض النظر عن موضوع تفصيل المادة على قياس الرئيس مبارك. باستثناء الإخوان كانت نتائج انتخابات 2005م قد انحدرت بالمعارضة الرسمية إلى درجة مخيفة. نتيجة هذا الموقف أظهرت فراغاً في الشارع فخرجت حركات كثيرة كانت بدايتها حركة كفاية. الإخوان في المعارضة السودانية يسعون بكل جهدهم مثلما نسعى نحن لإثناء الحراك عن شعار فك الارتباط, الانفصال في جنوب السودان خيار وقعته الحكومة, بعد تدخل الأممالمتحدة والدول الكبرى, كل هذه السنين في الحرب بين الشمال والجنوب لم تدفع بالمعارضة إلى قراءة الحالة والتقدم بمشروع فيدرالية أو كونفدرالية بين شمال السودان وجنوبه, قبل عشرين عاماً, هل كان سترفض الحركة الشعبية مشروع الفيدرالية؟ لو أننا قدمنا نحن مشروع الفيدرالية قبل ثلاث سنوات وتحركنا من أجل تحقيق اصطفاف وطني كما نفعل اليوم لفرض مشروع الفيدرالية, هل سيكون مشروع الانفصال مطروحاً, بنفس القوة التي يطرح بها اليوم؟ span style=\"color: #333399\"*صحيفة التجمع