تناولنا في الحلقة السابقة عملية مقارنة بين عقلية النظام الحاكم وعقلية القبيلة في تعاملهما وادارتهما للازمات الداخلية ، وخلصنا من تلك الدراسة المقارنة الى استنتاج بان مسألة الحرب على الارهاب والقاعدة الذي يشكل هاجسا مقلقا للولايات المتحدةالامريكية والمجتمع الدولي ، من الممكن ان تحقق نتائج ايجابية ونجاحا كبيرا ، اذا ماتم عبر تفاهمات وتنسيقات وعمل مشترك مع المشائخ والواجهات والرموز القبلية مباشرة ، وغالبا بدون اراقة دماء وازهاق ارواح ،وهو ما وعدنا بمعالجته في هذه الحلقة من الدراسة . والواقع ان الحكومات غالبا ما تميل عند معالجتها لمشاكل وازمات داخلية او خارجية ، الى استخدام اساليب ومعالجات تكتيكية براجماتية ، لاتتوخى معالجة المشكلة او حلها بشكل مغال ونهائي رغم توفر المقدرة على ذلك ، بل تغتنمها فرصة سانحة لاستغلالها وتوظيفها على نحو يخدم ويفيد بعض المشاكل والازمات الاخرى المدرجة في اجندة تلك الحكومات ، ونجدها تحرص دائما على تحاشي القضاء على المشكلة وتحرص على الابقاء عليها وتنميتها وحمايتها الى ان تنتفي الحاجة اليها .. واذا اخذنا مايسمى ب " القاعدة " ومايرتبط بها من اعمال ارهابية وعنف دموي ؛ كمثال ، فاننا نلاحظ ان بعض الحكومات المأزومة سياسيا في بلدانها ، وخاصة تلك الحكومات القمعية الاستبدادية وتلك التي تدعي ممارستها لديمقراطية شكلية فارغة المضمون والمحتوى ويسودها الفساد والتزوير الخ ..،تحرص على اقامة علاقة بينها وبين القاعدة في اطار سري بالغ التكتم ، يتم من خلالها تقديم تنازلات او مصالح او تسهيلات او حماية مبطنة لعناصر وانشطة القاعدة مقابل هدفين رئيسيين : * الاول: استخدام تلك العناصر الارهابية في استهداف وتصفية بعض الخصوم السياسيين الخطرين على تلك الحكومات والتخلص منها دون تحمل الحكومات للمسئولية عن تلك الجرائم . * الثاني : عدم التوجه الجاد للقضاء على تلك العناصر الارهابية مع توفر القدرة على ذلك ، لادراك تلك الحكومات المأزومة ، ان القضاء على الارهابيين ، سيترتب عليه انعدام او انتفاء الحاجة السياسية لتلك الحكومات من قبل القوى الدولية المعنية بالحرب على الارهاب وبالتالي بروز احتمال قوي بامكانية سعي تلك القوى الدولية الى التخلص من تلك الحكومات المأزومة والفاسدة وتغييرها ! ولهذا فان تلك الحكومات تدرك اهمية الابقاء على المنظمات الارهابية وحمايتها وعدم القضاء عليها بل واحيانا دعمها وتقويتها لضمان الابقاء عليها في السلطة واستمرار الاحتياج لها ، بالاضافة الى حرص تلك الحكومات على ابقاء وحماية تلك المنظمات الارهابية كوسيلة لتحقيق بعض المصالح والمكاسب والمساعدات كفزاعة لتخويف المجتمع الدولي من خطورة وتنامي الارهاب وتوسعه ! ولهذا اثبتت تجارب الحرب على الارهاب ، عالميا ان الاعتماد في ذلك على حكومات مأزومة وفاسدة مفتقدة الى تأييد ورضى شعوبها ، قد فشل واخفق في تحقيق اي نتيجة ايجابية ملموسة بل ادى الى استمرار تنامي وانتشار وتصاعد قوة المنظمات الارهابية وتأثيرها ! وبناء على ماسبق ذكره آنفا وفي سياق الحلقة السابقة من هذه الدراسة ، رأينا بان افضل وسيلة وانجح اسلوب في الحرب على الارهاب والقضاء عليه باقل التكاليف والخسائر والاخطاء ، هو قيام المجتمع الدولي وقواه المعنية بتلك الحرب بعقد تفاهمات واقامة علاقات تنسيق وتعاون وعمل مشترك مع مشائخ ورموز وواجهات القبائل التي يثبت انها تؤوي او تتغاضى عن وجود مثل تلك العناصر الارهابية داخل قبائلها ، على ان يقترن ذلك بمعرفة واستيعاب اهم قواعد الاعراف القبلية المتعارف عليها بين القبائل والمنظمة لشئونها وعلاقاتها وحركتها ، والتعامل وفقا لمقتضيات تلك الاعراف القبلية . ان من المستحيل على اية قبيلة ان تناقض اعرافها او تقضي بعكسها في اي شأن من شئونها ومشكلة من مشكلاتها وعلاقاتها الداخلية ومع الغير ،ولهذا فاننا نلاحظ مثلا ، عند نشوب نزاع سواء بين ابناء القبيلة الواحدة او بينها وبين غيرها من القبائل ، انها تمنح تحكما مطلقا لبعض مشائخها دون تردد لان الجميع يدرك ان المحكمين لايمكن باي حال من الاحوال ان يصدروا حكما يتعارض او يناقض الاعراف السائدة منذ مئات السنين ، وان حدث ذلك صار سابقة تستوجب عزل المحكمين ووصمة عار تلصق بهم وذريتهم المتعاقبين من بعدهم ، وتسقط وجاهتهم ومكانتهم داخل القبيلة ولدى القبائل الاخرى. هذا من ناحية ، ومن ناحية اخرى فان من صميم اعراف القبائل واهمها ، اغاثة الملهوف وتأمين الخائف على حياته وحمايته ويطلق عليه " ربيع" لدى القبائل تحارب كلها من اجل حمايته والدفاع عنه اذا تطلب الامر ، وهذا مبدأ حضاري معمول به في المجتمعات المتقدمة التي تمنح حق اللجوء لكل مضطهد ملاحق بخشى على حياته من التلف ، غير ان القبيلة تميز دائما بين نوعين من "الرباعة" : الاول : ربيع صواب ، وهذا صاحب حق ظاهر وبين وجلي والقبيلة ملزمة بالوقوف الى جانبه الى ان يحصل على حقوقه المنهوبة ولو ادى الامر الى نشوب الحرب بينها وبين القبيلة الاخرى ، واذا ماتبين ان هذا الربيع مطالب بحق اخذه من غيره فالقبيلة تلزمه برد الحقوق الى اصحابها ، وتقول القاعدة العرفية القبلية " الحق منك والباطل علينا " والثاني: ربيع غوى ، وهو شخص ليس له حق منتهب ولا ظلم واقع عليه ، وانما قد يكون هاربا من قبيلة بسبب جريمة ارتكبها ، فمثل هذا الشخص لايقبل كربيع لدى القبيلة ، وقد تنخدع القبيلة في بادئ الامر فلا تعرف حقيقة هذا الشخص " المتربع" ولكن اذا ماتبين انه قاتل ومعتدي وقاطع طريق سرعان ماتنبذه او حتى تسلمه للعدالة ولما كانت العناصر الارهابية ، تمتهن وتحترف القتل والعنف واستهداف الابرياء وقطع الطريق وتخريب الممتلكات وغير ذلك من الاساليب ، فانهم يندرجون تماما تحت قائمة "ربيع غوى" والقبيلة يستحيل ان تجير او تحمى "ربيع الغوى" مطلقا ، غير انه كما تشير المعلومات ان بعض القبائل بحكم عمق المشاعر والعواطف الدينية لديهم تراهم عندما يرون شخصا تبدو عليه علامات التدين والدعوة الى الله كاطلاق اللحي وقص الشوارب وتقصير الثوب وبروز السجدة على جباههم وقدرتهم على التحدث بامور الدين وغيرها ، يتعاطفون معه ويجيرونه ويحمونه ويصبح " ربيعا" لدى القبيلة ويحتل مكانة مرموقة ويحظى باحترام وتقدير عاليين مما يمكنه من احداث تأثير بين شباب القبيلة ومشائخها ورجالاتها ، وغالبا مايزوجونه ويصاهرونه ! ويحدث احيانا ان بعض الارهابيين الرئيسيين تجيرهم بعض القبائل بناء على طلب وتزكية من كبار مسئولي الدولة وتؤويهم وتحميهم على اعتبار انهم من دعاة الدين المسالمين ! والمؤكد ان تلك القبائل وبناء على منظومة اعرافها وتقاليدها المتوارثة متى مااقتنعت عن يقين من خلالها مشائخها ورموزها وواجهاتها البارزة ، ان تلك العناصر ارهابية تحترف وتمتهن القتل وسفك الدماء والتخريب والعنف والاعتداء على الآمنين الابرياء ، وهذا شأنهم وطبيعتهم في الواقع ، فان تلك القبائل يستحيل الابقاء عليهم تحت حمايتها ومظلتها ابدا . ووفقا لهذا الفهم والمفهوم في طبيعة القبائل واعرافها واسلافها ، فاني اعتقد بأهمية اقامة علاقة تفاهم وتشاور وتنسيق وتعاون مستمر بين ممثلين للقوى الدولية المعنية بالحرب على الارهاب والقاعدة من جهة ومشائخ ورموز القبائل التي يعتقد بايوائها لمنظمات وعناصر ارهابية ، وعلى ان تحتكم مثل تلك العلاقة على منظومة الاعراف القبلية ، بحيث يتم البرهنة واقناع اولئك المشائخ بحقيقة العناصر الارهابية وسجلهم الاجرامي الدموي مايمثلونه من خطر داهم على البلاد والعباد ، ومتى ماوصل اولئك المشائخ الى اقتناع راسخ فانه من المؤكد ان القبائل ان لم تقم بتسليم الارهابيين للعدالة فانها ستسحب حمايتها لهم وتطردهم فورا من ديارها ، حينها لن يجد اي ارهابي اي مجال او فرصة للايواء او الحماية او العثور على ملاذا آمن في اي قبيلة من القبائل اليمنية ، اما في المدن والمناطق المدنية غير القبلية في البلاد فان مهمة الدولة واجهزتها الامنية ينبغي ان تقوم بواجباتها ومسئولياتها في ملاحقتهم وتقديمهم للعدالة لينالوا جزاءهم العادل . والواقع ان مايميز القبيلي ،وبالتالي مايميز العقلية الجمعية للقبيلة عن عقلية الحكم كما هو في وقتنا الراهن ، ان القبيلة اذا قطعت على نفسها عهدا وفت به تماما ، وان وعدت لاتخلف الوعد ، وان عاهدت نفذت ، وان اقسمت بالله العظيم فلا تقسم ابدا إلا اذا تيقنت بأن ماتقسم عليه اليمين حقا وصدقا . واذا منحت وجهها قاتلت وقتلت حتى لاتخونه ، هذه هي الاعراف الاصيلة للقبيلة منذ مئات السنين ، مهما بدت من تصرفات وممارسات وافعال يقوم بها احيانا بعض من افراد القبائل تتصادم وتتناقض مع تلك الاعراف الاصيلة والتقاليد الراسخة المتعارف عليها ، وتسيئ الى سمعة القبائل وسجلها المشرف وتشوه صورتها . ولنا في التاريخ ، غير البعيد عبرة ومثالا ، فطوال حكم الائمة لليمن، اعتمد هولاء الائمة الحكام على مشائخ وعقال القبائل ، في اطفاء المنازعات وضبط الامن واستتباب الامان والاستقرار والسكينة العامة في ربوع البلاد كافة ، وكانوا مسئولين مسئولية كاملة امام الدولة عن كافة اعمال واشكال الفوضى والاخلال بالامن وتهديد الاستقرار والامان والسكينة ، مقابل مايصرف لهم من نسبة مئوية من الواجبات الزكوية ، وبهذا الاسلوب والمنهج كان المواطنون يشعرون ويعيشون في جو يسوده الامان والامن والاستقرار والسكينة على نحو كامل وفي كافة ارجاء البلاد ؛ بدوها والحضر ، قراها والمدن ، طرقها وجبالها ووديانها . . وعلى اية حال فلقد خربنا الاعتماد على الحكومات على مدى عشر سنوات تقريبا في التصدي للارهاب والارهابيين ولم نحصد من وراء ذلك سوى تصاعد الاعمال الارهابية واتساع نطاقها ،وزيادة قوتهم ونفوذهم اكثر فاكثر ، فعلى الاقل دعونا نجرب اسلوبا جديدا اثبتت نجاعته وفاعليته في تحقيق امن واستقرار البلد والشعب في العهود الماضية ، اسلوبا يعتمد على الشعب او المواطنين ويشركهم مشاركة فعالة في القضاء على الارهاب وشروره ، وبالتاكيد لن نخسر شيئا من وراء التجربة وان كان المرجح اننا سننتصر في حربنا ضد هذا الارهاب المدمر ، بالمزاوجة بين الجهد الدولي والجهد الشعبي المحلي .. فلنجرب ولنتفائل ...