في ثمانينيات القرن الماضي، غزا الفكر الوهابي اليمن مع عودة مقبل بن هادي الوادعي من السعودية، وتأسيسه «دار الحديث» في مسقط رأسه، وادي دماج في محافظة صعدة، بعد ترحيله من المملكة على إثر قضية جهيمان المعروفة، وهجومه مع جماعته على الحرم المكي. في البداية، ارتبط اسم السلفية بالدعوة الوعظية ومواضيع العقيدة والجرح والتعديل في مسانيد الأحاديث النبوية وغيرها من العلوم الدينية، وظلت في فترتها الأولى بعيدة عن السياسية، واكتفت بالدعوة لولي الأمر ووجوب طاعته وتحريم الخروج عليه، ما زاد الإقبال على مركز دماج من قبل الشباب في اليمن بشكل عام، ليتنامى حضوره وتأثيره في المجتمع، وساعد في ذلك، تدفق الدعم المالي للمركز من السعودية، ومع بداية التسعينات، وفي مرحلة التعددية السياسية في اليمن، أصبحت السلفية لدى بعض البسطاء، تشكل نموذجاً للتدين، لبعدها عن السياسة، بل وتحريم الحزبية، ولمبررات ترى أنها مقنعة لذلك التحريم، على عكس تيار الإخوان المسلمين، الذي انخرط في حزب سياسي، وتخلى نسبياً عن فكره السلفي، مع نجاحه في استقطاب بعض الشخصيات التي قادت جناح السلفية الإخوانية في حزب الإصلاح، ورأت في الحزبية طريقاً مختصراً لتحقيق الهدف المزعوم، اصلاح الأمة بتمكين كتاب الله، كما يزعمون من الحكم. إن الخلفية الوهابية التي أتى منها الشيخ الوادعي، ترى قطعاً أن مجرد النشاط السياسي هو منازعة لولي الأمر، وهو رأي تم تصميمه من قبل القادة التاريخيين للوهابية، السند والعصى الغليظة للنظام السعودي، ولذلك، جعلت النشاط السياسي محرماً، واعتبرته خروجاً عن الحاكم. والوادعي حمل ذلك الفكر بحذافيره، وظل الأمر خامداً لسنوات، حتى إعلان التعددية السياسية في اليمن، والتي تزامنت مع ازدهار نشاط مركز الوادعي في دماج، في صعدة، وإعلان التعددية معناه، اصطدام رؤية السلفية في اليمن مع الدستور، الإ أن الأمر ظل موارباً في ظل تفهمات وامتنان القيادة السلفية للنظام السابق على توفير الغطاء لها وحمايتها، بعد ذلك، خرجت من تحت عباءة السلفية جمعية الحكمة اليمانية، وجمعية الاحسان، وهما اللتان بدأتا نشاطاً دعوياً، ثم اجتماعياً، ورويداً رويداً تبلورت فكرتي حزب الرشاد السلفي عن الإحسانيين، وحزب النهضة عن الحكميين، وهما بالطبع لا يمثلان كافة السلفية بعد رحيل الوادعي، فهناك تيار محمد الامام، ومركزه في محافظة ذمار، وهو أحد قادة تيار السلفية العلمية الذي حافظ على مهادنته للسلطة المهيمنة (أنصار الله). وعلى الرغم من أن السياسة صارت نشاطاً كبيراً لكثير من القيادات السلفية، الا أنه يلاحظ عليها الإلتباس في مفهوم الوطن، كعادة الحركات التي تستمد أيديولوجيتها من الخارج، الذي تدين بالولاء له، وتنفذ تعاليمه، بالإضافة إلى التباس مجموعة من المفاهيم العامة الأخرى، وذلك الإلتباس يجعل قادة الحركة السلفية في صدام مع أفكار الوادعي نفسه من ناحية، ومع الدساتير الوطنية أو القوانين النافذة في الحالة الطبيعية للبلد من ناحية ثانية. إن حداثة انخراط السلفية في النشاط السياسي، وارتباطها المعتاد بالسلطات الحاكمة، جعل منها أجنحة متعددة القيادة، وغير واضحة الرؤية، تراوح بين إلتزام الأفكار التقليدية، ومحاولة الخروج عن التعاليم الأبوية، بل والعمل لحسابها الشخصي، ما جعلها جماعات وفرق حتى في الجناح الواحد، تبعاً لقوة الشخصية وهيمنها، وهو ما يجعل تلك الأجنحة تتمترس خلف أجندة مختلفة داخلية وخارجية، لتحقق الشعبية والقوة المطلوبة للهيمنة، وتحكمها رؤى واجتهادات فردية، للخروج من وصاية السلفية التقليدية، ولتنتزع به أيضاً شرعية تمثيل التوجه السلفي إجمالاً، وتوجه الرأي العام به من ناحية أخرى. وخلال الأعوام الثلاثة الماضية، اخترقت السلفية الحراك الجنوبي، وظهر تيار جديد يقوده الشيخ هاني بن بريك، الذي يجاهر بالخروج على طاعة ولي الأمر، وصار يحتكر لنفسه حق تمثيل التوجه السلفي في المناطق الجنوبية، وتوجه له أصابع الإتهام بتصفية عدد من الشخصيات السلفية المخالفة له، والرافضة للتواجد الاماراتي في عدن والجنوب، وهو ما يكشف عن إشكالية جوهرية لدى التيار السلفي الطارئ على العمل السياسي، المتمرس خلف سلاحه، والذي يتعامل مع ولاءاته السياسية كولاءاته الدينية، وليس هناك معنى عنده للوطن، ولا تورع عن ممارسة العمالة للخارج. لقد أصبح هاني بن بريك، ينفذ توجهيات أمنية وسياسية لدول اقليمية، ويرتبط بها مباشرة حتى بعد إقالته من منصبه كوزير دولة في حكومة الرئيس هادي، بل ويجاهر بولائه للإمارات، فمن يضخ المال هو من يستحق الولاء والطاعة، وهنا، لا بد من الإشارة إلى مقطع فيديو تم تداوله على مواقع التواصل الإجتماعي، يظهر فيه أحد القيادات العسكرية الإماراتية، وهو يخاطب مجموعة من السلفيين في عدن، ويؤكد لهم بأنهم ليسوا بحاجة لأخذ فتوى دينية من مشائخ السلفية، لأن معهم الشيخ المجتهد هاني بن بريك، وهو حجة في الفتوى بحسب قوله، وذلك رداً على انتقاداتهم لممارسات بن بريك، واعتباره خارجاً عن منهج السلف. وفي مدينة تعز، يشكل أبو العباس (عادل عبده فارع)، خليطاً من تقلبات السلفية التقليدية والحركية النفعية في الجنوب، فهو يتأرجح بين الأخذ بآراء مشايخ مركز دماج، المحسوب عليهم، فيما يتعلق بطاعة ولي الأمر «الشرعية»، ورأيهم في وجوب وحدة الأمة، وبين التوثب نحو استنساخ تجربة بن بريك إلى تعز، فبالرغم من أنه على تواصل مع الإمارات، ويتلقي تمويلاً مالياً ودعماً لوجيستياً لكتائبه، إلا أن ذلك لم يمنع الولاياتالمتحدة، الداعم الرئيسي للإمارات، من إدراج اسمه في القائمة السوداء لوزارة الخزانة. وما ينبغي الإشارة إليه، أن السلفية في اليمن أثبتت أنها مع من يدفع أكثر، وأن السبب في تشظيها إلى أجنحة وفصائل، هو تسابق تلاميذ مقبل بن هادي الوادعي، وخلفه يحي الحجوري على المال ومطامع الدينا، وأن كل جناح لديه الإستعداد لتصفية كل من يعترض طريقه، حتى وإن كان من نفس عجينة دماج ووهابية محمد بن عبدالوهاب. ولا يعيب كل جناح، الإرتماء في حضن الأجنبي، وتبرير ذلك بتطويع نص قراني أو تصحيح حديث موضوع يقنع به الأتباع والرعاع، فمعظم مشايخ السلفية، ينطبق عليهم ما قاله الضابط الإماراتي عن ابن بريك «الشيخ هاني حجة في الفتوى»، والوعظ والإرشاد بحسب الطلب، وكل شيء بحسابه.