لماذا كل هذا السخاء «المروع!!» من جانب الرئيس الأميركي أوباما الذي أذهل حتى بعض عتاة اليمين الإسرائيلي نفسه وهم يطالعون بعض تفاصيل الالتزامات الأميركية التي تبدأ من «طائرات إف 35» العشرين التي تمثل جيشا كاملا ضمن مساعدات عسكرية واقتصادية هائلة تتجاوز قيمتها العشرين مليار دولار، ولا تنتهي عند التعهد المطلق باستخدام حق النقض «الفيتو» لمنع أي إدانة لإسرائيل ولمنع أي محاولة عربية لاستخراج شهادة ميلاد الدولة الفلسطينية بقرار دولي. كل ذلك مقابل تجميد الاستيطان الإسرائيلي (غير الشرعي وغير القانوني) في الضفة الغربيةالمحتلة ومع استثناء القدس، وأيضا مع التعهد الأميركي بألا يعود مرة أخرى لطلب تجميد الاستيطان بعد الأشهر الثلاثة التي يعود فيها الفلسطينيون إلى مائدة التفاوض، ومهما تكن النتائج.. وهي معروفة سلفا؟! لماذا كل هذا السخاء الأميركي «المروع»؟ سؤال ينبغي أن يطارد العرب والفلسطينيين ليل نهار، لأنهم هم وحدهم وليست أميركا كما يبدو من يدفعون في النهاية كل الفواتير المالية والاقتصادية والسياسية، وهم الذي يتحملون مسؤولية الرهانات الخاطئة لهم. وللآخرين، وهم الذين خسروا منذ ساروا وراء وهم ترك كل الخيارات، والجلوس في انتظار السلام الذي سيتبرع به العدو على مائدة التفاوض التي ترعاها أميركا وتباركها وتملك أوراق اللعبة وتفرض قواعدها. ولندع جانبا من البداية هذا السخف الذي يرجع الأمر برمته إلى نتائج الانتخابات التشريعية الأميركية الأخيرة والهزيمة التي تلقاها الحزب الديمقراطي وسيطرة الجمهوريين على مجلس النواب وحاجة أوباما في الفترة القادمة لنفوذ اللوبي اليهودي لمعالجة الوضع في الكونجرس، وهو تفسير لا يليق بدولة في حجم بوركينافاسو وليست الولاياتالمتحدة التي لا يمكن أن تغير سياستها بين يوم وليلة، ولا أن تترك مصالحها الكبرى في هذه المنطقة المهمة في العالم مرهونة برضاء بضعة آلاف من المستوطنين. وهو تفسير يتجاهل أن من دخلوا ومن خرجوا من الكونجرس (ديمقراطيين أو وجمهوريين) لا يختلفون إلا في درجة الولاء لإسرائيل.. وأن الكونجرس السابق كان كالحالي مستعمرة إسرائيلية كاملة على أرض أميركا.. وبرضاها!! هذه صفقة جرى التفاوض بشأنها لشهور، وهي جزء من سياسة أميركية للمنطقة (صحيح أنها مرتبكة ومتعثرة ولكنها تضع أهدافا وتحاول تحقيقها) وهنا فإن ما ينبغي أن يقلقنا أكثر من هذا السخاء الأميركي «المروع» هو هذا التردد أو التمنع الذي يبديه نتنياهو في قبولها!! فلو كان الأمر مجرد تجميد للمستوطنات لثلاثة أشهر، فإنه أمر لا يستحق حتى النقاش بعد أن رأينا حقيقة التجميد السابق الذي لم ينقطع خلال شهوره العشرة البناء في المستوطنات ليوم واحد!! وإذا كان الأمر هو العودة للتفاوض، فهذا مطلب إسرائيلي يستحق أن تدفع تل أبيب ثمنا له، لا أن تقبض عليه هذا الثمن الباهظ!! أما الحديث عن الائتلاف الحكومي والخوف من انهياره كسبب لتردد نتنياهو فليس إلا أكذوبة ولعبة لتوزيع الأدوار.. فالائتلاف قائم ومستمر والأغلبية مضمونة، وعلى العكس فإن الصفقة تكرس زعامة نتنياهو وتؤكد صحة موقفه في مواجهة ضغوط إدارة الرئيس أوباما حتى توقفت، فكانت كل هذه المزايا والمكاسب مقابل تسعين يوما من تجميد الاستيطان.. يا بلاش!! من أجل هذا تبقى الأسئلة مطروحة حول الدوافع الحقيقية لهذا السخاء من جانب أوباما، وهذا التمنع رغم إغراء الصفقة من جانب نتنياهو، وحول هذا الحرص من جانب واشنطون على إبقاء «عملية السلام» على قيد الحياة، ودفع هذا الثمن الباهظ من أجل تفاوض لمدة تسعين يوما!! وهنا قد يبدو الأمر مناسبا لأصحاب الرهانات العربية الخائبة للحديث عن أن السخاء الأميركي هو ثمن للحصول على موافقة نتنياهو على الخطة الأميركية للتسوية أو على الأقل هو «مقدم الثمن» . وأن تردد رئيس الوزراء الإسرائيلي نابع من اتفاق آخر في الخلفية على أن يتم خلال الأشهر الثلاثة إنهاء كل العقبات أمام مشكلتي حدود الدولة الفلسطينية وإجراءات الأمن المطلوبة من الجانب الإسرائيلي ليكون الطريق ممهدا لإعلان الدولة الفلسطينية مع تأجيل باقي القضايا المهمة الأخرى (بما فيها اللاجئين والقدس) للتفاوض عليها بعد ذلك. ويصطدم هذا التصور بأن الأمور لا تسير على هذا النحو عند الجانب الآخر، ثم إن نتنياهو أعلن في نفس الوقت الذي أزاح فيه الستار عن الصفقة الأميركية أنه مازال على إصراره على بحث كل القضايا معا بما فيها حدود الدولة الفلسطينية، ثم إنه لو كان ذلك صحيحا لما أعلنت دولة مثل مصر رفضها للصفقة الأميركية وبلهجة حاسمة تعتبر الصفقة ضربة للجهود الحقيقية للتسوية السياسية، ولو كان ذلك صحيحا لاصطف اليمين الإسرائيلي في رفض الصفقة دون نقاش، ولما اعتبرها البعض «هدية لا يمكن التسامح مع من يرفضها»!! ولا يقف حديث الأوهام عند حدود القضية الفلسطينية، بل يتعداها عند البعض إلى حديث عن تغيير لاستراتيجية أوباما في المنطقة، واستعدادها الآن لصفقة شاملة لتسوية تنهي كل «المشاكل» بين العرب وإسرائيل، وأن الصفقة التي يقبض نتنياهو ثمنها أو «العربون» لها تشمل سوريا ولبنان بعد أن ثبت لواشنطون ارتباط كل القضايا المتعلقة بالصراع العربي الإسرائيلي. ويغمض هؤلاء عيونهم عن تصاعد التهديد الأميركي أخيرا لدمشق، وعن الضغوط التي تمارس على لبنان والاستعدادات لتفجير الأوضاع فيه بالحرب أو بقرار المحكمة الدولية. وتبقى احتمالات أخرى لابد أن توضع في الحسبان.. منها أن تكون واشنطون مقبلة على تسوية ما مع طهران، وأن يكون ما تم بينهما من توافق أخير في العراق (على محدوديته وهشاشته) مقدمة لتوافق أوسع يراعي مصالح الطرفين ويساعد الولاياتالمتحدة في إدارة باقي أزماتها في المنطقة، مقابل الإقرار بالدور الإقليمي لإيران وإغلاق ملفها النووي. ولا أظن هنا أن اليمين الأميركي أو إسرائيل سيتعايشون مع ذلك (مهما تكن الهدايا لإسرائيل) إلا إذا حدثت تغييرات داخلية أساسية في إيران تنعكس على سياستها العامة، وهو أمر ليس واردا.. حتى الآن! على النقيض من ذلك قد تكون الصفقة (والجانب العسكري هو عنوانها البارز) إشارة إلى حرب قادمة في المنطقة.. تريدها إسرائيل لفرض الواقع الذي تريده على الجميع، وتريدها أطراف أميركية للقضاء على ما تبقى من سياسة أوباما في المنطقة.. وفي أميركا أيضا!! و.. لنا الأسئلة وانتظار الإجابات، ولإسرائيل السلاح المجاني وبلايين الدولارات والضمانات الأميركية بألا يعاقبها العالم على ما ترتكب من جرائم في حق العرب وفي حق الإنسانية، وللقدس رب يحميها.. حتى تستعيد الأمة وعيها الغائب وتمارس حقها المشروع في المقاومة وتنتصر لنفسها بإنهاء الانقسامات وتوحيد الجهود فتفتح الطريق لاستعادة الأرض المحتلة والحقوق المسلوبة.. بدلا من تسول سلام لن يجيء، ولن يتبرع به الآخرون!! كاتب صحفي مصري [email protected]