يقول إبن خلدون : ( إن فن التاريخ من الفنون التي تتداولها الأمم والأجيال وتشد إليها الركائب والرحال وهو ظاهره لايزيد على إخبار عن الأيام والدول والسوابق من القرون الأول وفي باطنه نظر وتحقيق وتعليل للكائنات دقيق وعلم بكيفية الوقائع وأسبابها عميق فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق ) ( بتصرف من المقدمة ) فلنلقي نظرة سريعة وهامة على الثورات التي جرت في تاريخ الإسلام - مانجح منها وما فشل ماكان على حق وماكان على باطل – ولنتامل في الأسباب ونتفكر في النتائج ليعتبر كل معتبر مع المتعة المعرفية والتاريخية والإطلاع على سيرة شجعان كانوا من عجائب الزمان . ثورات سابقة تحدثنا عن ثورة الحسين رضي الله عنه بشكل مفصل لكننا سنؤجل الحديث عن ثورة عبدالله بن الزبير رضي الله عنه وثورة اهل المدينة على يزيد بن معاوية وثورة التوابين إلى موعد قريب ونتحدث عن الثورات التي حصلت بعد العام 73ه وهو العام الذي تم فيه السيطرة الكاملة لبني مروان على العالم الإسلامي بعد إستشهاد ابن الزبير. سبب ثورة شبيب كان عبدالملك بن مروان خليفة المسلمين يفرض لزعماء القبائل وأهل السؤدد مبلغا من المال وكان شبيب بن يزيد بن نعيم الشيباني من زعماء بني شيبان – قبيلة عدنانية باسلة تنسب لبكر بن وائل - فقصد الشام ونزل على روح بن زنباع – كان بمنزلة الوزير – وقال له : سل أميرالمؤمنين أن يفرض لي في أهل الشرف فإن لي في بني شيبان تبعا كثيرا فسأل روح بن زنباع عبدالملك بن مروان ذلك فقال : هذا رجل لا أعرفه !!! فذكر روح بن زنباع لشبيب أن عبدالملك بن مروان ذكر أنه لايعرفه فقال : سيعرفني بعد هذا !! فهل أخطاء الخليفة عبدالملك عندما منع شبيبا من العطاء والذي كان يعطيه لامثاله من الزعماء ؟ وماذا سيعمل شبيب ليعرفة الخليفة ؟ لنتابع القصة التي هي من عجائب الدهر وغرائب الدنيا !! شبيب ينظم للثورة رجع شبيب إلى بني شيبان دون أن ينسى هذه الكلمة : لا أعرفه !! فجمع رجالا من الشجعان منهم أخوه مصاد، والمحلل بن وائل اليشكري، وإبراهيم بن حجر المحلمي، والفضل بن عامر الذهلي وآخرون وتوجه بهم إلى صالح بن مسرح أمير الخوارج الصفرية ( 1 )، الذي تشجع برسالة وصلته قبل ذلك من شبيب فواعده وواعد اتباعه إلى هلال شهر صفر سنة76ه فاجتمعوا عند صالح تلك الليلة، فسأله بعضهم عن القتال قبل الدعاء أم بعده؟ فقال: بل ندعوهم فإنه أقطع لحجتهم. فقال له: كيف ترى فيمن قاتلنا فظفرنا به، ما تقول في دمائهم وأموالهم؟ فقال لهم: إن قتلنا وغنمنا فلنا وإن عفونا فموسع علينا. سبب دائم للثورات ذكرنا السبب الشخصي الذي دعا شبيب للخروج والثورة لكن تعالوا لنستمع للاسباب الدائمة الموجبة للخروج من وجهة نظر الخوارج ففي نفس الليلة المذكورة عاليا يعظهم صالح بن مسرح ويذكر لهم الاسباب فيقول : اتقوا الله عباد الله ولا تعجلوا إلى قتال أحد من الناس إلا ان يكونوا قوما يريدونكم وينصبون لكم فإنكم إنما خرجتم غضبا لله حيث انتهكت محارمه وعصي في الأرض فسفكت الدماء بغير حلها وأخذت الأموال بغير حقها فلا تعيبوا على قوم أعمالا ثم تعملوا بها فإن كل ما أنتم عاملون عنه مسؤولون وإن معظمكم رجالة وهذه دواب لمحمد بن مروان في هذا الرستاق فابدؤوا بها فشدوا عليها فاحملوا أراجلكم وتقووا بها على عدوكم فمالوا إلى دواب محمد بن مروان نائب الجزيرة – ولاية في تلك الأيام تقع بين نهري دجلة والفرات في العراق وبعض سوريا - فأخذوها فنفروا بها، وأقاموا بأرض دارا ثلاثة عشر ليلة، وتحصن منهم أهل دارا ونصيبين وسنجار وكان خروجه وهو في مائة وعشرين، وقيل وعشرة. وقد تندهش وتتعجب وتقول : كيف يخرجوا في هذا العدد اليسير على دولة عظمى فاقول لك لاتتعجل وتابع القصة فهي من أعجب العجب !!! الرجل خير من مائة بلغ مخرجهم محمد بن مروان – أخو الخليفة - وهو يومئذ أمير الجزيرة فاستخف بأمرهم وبعث إليهم عدي بن عدي بن عميرة من بني الحارث بن معاوية بن ثور في خمسمائة وعدي هذا كان يعرف قدر شجاعة الخوارج حق المعرفة فهل سيقبل المهمة دون نقاش ؟ لا . بل سيبين للوالي حقيقة من سيحارب فيقول : أصلح الله الأمير أتبعثني إلى رأس الخوارج منذ عشرين سنة قد خرج معه رجال من ربيعة – يقصد شبيبا ومن معه من بني شيبان التي ينتهي نسبها لربيعة بن نزار بن معد بن عدنان - قد سموا لي كانوا يعازوننا الرجل منهم خير من مائة فارس في خمسمائة رجل ؟ فقال له : فإني أزيدك خمسمائة أخرى فسر إليهم في ألف فسار من حران في ألف رجل فكان أول جيش سار إلى صالح وسار إليه عدي وكأنما يساق إلى الموت وكان عدي رجلا يتنسك فأقبل حتى إذا نزل دوغان نزل بالناس وسرح إلى صالح بن مسرح رجلا دسه إليه من بني خالد من بني الورثة يقال له زياد بن عبدالله فقال : إن عديا بعثني إليك يسألك أن تخرج من هذا البلد وتأتي بلدا آخر فتقاتل أهله فإن عديا للقائك كاره فقال له صالح : ارجع إليه فقل له إن كنت ترى رأينا فارنا في ذلك ما نعرف ثم نحن مدلجون عنك من هذا البلد إلى غيره وإن كنت على رأي الجبابرة وأئمة السوء رأينا رأينا فإن شئنا بدأنا بك وإن شئنا رحلنا إلى غيرك فانصرف إليه الرسول فأبلغه ما أرسل به فقال له ارجع إليه فقل له : إني والله ما أنا على رأيك ولكني أكره قتالك وقتال غيرك فقاتل غيري فقال صالح لأصحابه : اركبوا فركبوا وحبس الرجل عنده حتى خرجوا ثم تركه ومضى بأصحابه حتى يأتي عدي بن عدي وهو قائم يصلي الضحى فلم يشعر إلا والخيل طالعة عليهم فلما بصروا بها تنادوا وجعل صالح شبيبا في كتيبة في ميمنة أصحابه وبعث سويد بن سليم الهندي من بني شيبان في كتيبة في ميسرة أصحابه ووقف هو في كتيبة في القلب فلما دنا منهم رآهم على غير تعبية وبعضهم يجول في بعض فأمر شبيبا فحمل عليهم ثم حمل سويد عليهم فكانت هزيمتهم ولم يقاتلوا وأتي عدي بن عدي بدابته وهو يصلي فركبها ومضى على وجهه وجاء صالح بن مسرح حتى نزل عسكره وحوى ما فيه . 120 يواجهون ثلاثة آلاف بعد هزيمتهم هزيمة شنيعة بالغة، واحتواء ما في معسكرهم، رجع المنهزمون إلى محمد بن مروان، فغضب وبعث إليهم ألفا وخمسمائة مع الحارث بن جعونة العامري، وألفا وخمسمائة مع خالد بن الحر وقال لهما: أيكما سبق إليهم فهو الامير على الناس، فساروا إليهم في ثلاثة آلاف مقاتل، فخرجا متساندين يسألان عن صالح، فقيل لهما: إنه توجه نحو آمد، فقصداه، فوجه صالح شبيباً في شطر من أصحابه إلى الحارث بن جعونة، وتوجه هو نحو خالد، فاقتتلوا من وقت العصر أشد قتال، فلم تثبت خيل محمد بن مروان لخيل صالح، فلما رأى أميراهم ذلك ترجلا وترجل معهما أكثر أصحابهما، فلم يقدر أصحاب صالح حينئذٍ عليهم، وكانوا إذا حملوا استقبلتهم الرجالة بالرماح ورماهم الرماة بالنبل وطاردهم خيالتهم، فقاتلوهم إلى المساء، فكثرت الجراح في الفريقين، وقتل من أصحاب صالح نحو ثلاثين رجلاً، ومن أصحاب محمد أكثر من سبعين.فلما أمسوا تراجعوا، فاستشار صالح أصحابه، فقال شبيب: إن القوم قد اعتصموا بخندقهم فلا أرى أن نقيم عليهم. فقال صالح: وأنا أرى ذلك. فخرجوا من ليلتهم سائرين فقطعوا أرض الجزيرة التي كانت تحت إمرة محمد بن مروان بن عبدالملك إلى الموصل . المواجهة مع الطاغية المبير أخذ الخوارج في أرض الموصل ومضوا حتى قطعوا الدسكرة، فبعث إليهم الحجاج بن يوسف الثقفي – كان والي العراق - ثلاثة آلاف مع الحارث بن عميرة، فسار نحوهم حتى لحقهم بأرض الموصل وليس مع صالح سوى تسعين رجلا،- إذا قتل منهم ثلاثون فيكون من معه في المعركة السابقة 120 - فالتقى معهم وقد جعل صالح أصحابه ثلاثة كراديس، فهو في كردوس (2)، وشبيب عن يمينه في كردوس، وسويد بن سليمان عن يساره في كردوس، وحمل عليهم الحارث بن عميرة، وعلى ميمنته أبو الرواع الشاكري، وعلى ميسرته الزبير بن الاروح التميمي، فصبرت الخوارج على قلتهم صبرا شديدا، ثم انكشف سويد بن سليمان وقتل صالح بن مسرح أميرهم، وقاتل شبيب حتى صرع عن فرسه، فحمل عليهم راجلاً، فانكشفوا عنه، فجاء إلى موقف صالح فأصابه قتيلاً، و في هذه اللحظات الحرجة تظهر – إلى جانب شجاعته - موهبة شبيب القيادية الفذة بخطته المحكمة الفريدة حيث ينادي : إلي يا معشر المسلمين، فلاذوا به. فقال لأصحابه: ليجعل كل واحد منكم ظهره إلى ظهر صاحبه وليطاعن عدوه حتى ندخل هذا الحصن ونرى رأينا، ففعلوا ذلك ودخلوا الحصن جميعهم، وهم سبعون رجلاً، وأحاط بهم الحارث وأحرق عليهم الباب، وقال: إنهم لا يقدرون على الخروج منه. أول جيش هزمه شبيب لما أحرق الحارث الباب على شبيب ومن معه وقال: إنهم لا يقدرون على الخروج منه ونصبحهم غداً فنقتلهم، وانصرف إلى عسكره، قال شبيب لأصحابه: ما تنتظرون؟ فوالله لئن صبحكم هؤلاء غدوة إنه لهلاككم فقالوا: مرنا بأمرك. فقال: بايعوني أو من شئتم من أصحابكم واخرجوا بنا حتى نشد عليهم في عسكرهم فإنهم آمنون. فبايعوا شبيباً، وأتوا باللبود فبلوها وجعلوها على جمر الباب وخرجوا، على الصعب والذلول من الباب فبيتوا جيش الحارث بن عميرة فقتلوا منهم مقتلة عظيمة ، وصرع الحارث، فاحتمله أصحابه وانهزموا نحو المدائن، وحوى شبيب عسكرهم، وكان ذلك الجيش أول جيش هزمه شبيب. وكان مقتل صالح بن مسرح في يوم الثلاثاء لثلاث عشرة ليلة بقيت من جمادى الآخرة من سنة 76ه . الهامش (1) قال قوم: سموا صفرية، لأنهم أصحاب ابن صفار، وقال قوم: إنما سموا بصفرة علتهم من كثر العبادة وهم مبتدعة لكنهم أقل الخوارج غلوا . (2) الكُرْدُوس الخيل العظيمة وقيل القِطْعة من الخيل العظيمةُ والكَرادِيسُ الفِرَق منهم ويقال كَرْدَسَ القائد خَيْله أَي جعلها كَتِيبة كَتِيبة والكُرْدُوس قطعة من الخيْل [email protected]