وصلت أخبار شبيب إلى الخليفة عبد الملك الذي عرفه الآن حق المعرفة بعد أن جهله وسخر منه عندما جاءه يطلب حقه !! بل فوق هذا لقد خاف الخليفة من شبيب خوفا شديدا،وما مع شبيب إلا شرذمة قليلة ،وقد ملأ قلوب الناس رعبا بما فيهم الحجاج الذي حار وتزلزل فكان يقول: أعياني شبيب !! وأدرك الحجاج بن يوسف والي العراق – أو هكذا تخيل - سر الهزائم المتكررة التي كانت تحل على جيشه من قلة قليلة لم تتجاوز الألف !! إنهم أهل الكوفة لذلك فقد أرسل إلى الخليفة يطلب منه جيشا جرارا ويخبره بحال أهل الكوفة وخذلانهم وخورهم !! أستجاب الخليفة لطلب الحجاج فأرسل إلى الحجاج سفيان بن الابرد الكلبي وحبيب بن عبد الرحمن الحكمي من مذحج اليمن في ستة آلاف فارس ومعهما خلق من أهل الشام، فاستغنى الحجاج بهم عن نصرة أهل الكوفة، وقام في الناس خطيبا فحمد الله وأثنى عليه ثم ذم أهل الكوفة . أشد قتال في الارض عزم الحجاج على قتال شبيب بنفسه وماشعر الحجاج إلا وشبيب قد سار إليه بجيشه حتى بلغ الصراة – قرب بغداد لاحقا - فخرج إليه الحجاج بمن معه من الشاميين وغيرهم، فلما تواجه الفريقان نظر الحجاج إلى شبيب وهو في ستمائة فخطب الحجاج بأهل الشام وقال : يا أهل الشام أنتم أهل السمع والطاعة والصبر واليقين لا يغلبن باطل هؤلاء الاراجس حقكم، غضوا الابصار واجثوا على الركب، واستقبلوا بأطراف الاسنة، ففعلوا ذلك، وأقبل شبيب وقد عبى أصحابه ثلاث فرق، وكان شبيب كلما أمر فرقة بالهجوم على جيش الحجاج صبروا له حتى إذا دنا منهم وثبوا إليه وثبة واحدة فانهزم عنهم، فنادى الحجاج: يا أهل السمع والطاعة هكذا فافعلوا ثم إن شبيبا حمل عليهم في كتيبه له حتى إذا غشى أطراف الاسنة ثبتوا في وجهه فقاتلهم طويلا، فلما رأى صبرهم طلب من سويد أن يأتي الحجاج من ورائه، فحمل فلم يفد ذلك شيئا، وادرك شبيب حينها أن حملات الفرسان لم تفد فنادى في أصحابه يا أولياء الله الارض الارض، ثم نزل ونزلوا واقتتل الناس قتالا شديدا عامة النهار من أشد قتال في الارض، حتى أقر كل واحد منهم لصاحبه، ثم إن خالد بن عتاب استأذن الحجاج في أن يركب في جماعة فيأتي الخوارج من خلفهم، فأذن له، فانطلق في جماعة معه نحو من أربعة آلاف، فدخل عسكر الخوارج من ورائهم فقتل مصادا أخا شبيب، وغزالة امرأة شبيب، وخرق في جيش شبيب، ففرح بذلك الحجاج وأصحابه وكبروا . خطاء شبيب لاشك بأن شبيبا قد أخطاء خطاء فادحا عندما تخلى عن أسلوبه السابق وهو السير أمام الجيوش الجرارة وأرهاقها ومن ثم الإنقضاض على مقدمتها وإبادته والذي أثبت فاعليته في حروبه السابقة وهو هنا قد خسر زوجته الفارسة الباسلة وأخيه الشجاع مصادا ولابد أن يرجع لخطته السابقة التي أثبتت نجاحها أو يستمر في قتال أهل الشام بالطريقة المعتادة في الحروب لكنهم في عدد هائل ولا وجه للمقارنة بين الجيشين !! . لقد قرر أن ينصرف هو وأصحابه كل منهم على فرس ليجبر فرسان الشام على مطاردته – الفرسان هم من يركبون الخيل – ويفعل بهم مافعله بالجيوش السابقة فسار بأصحابه نحو السواد فمروا بعامل الحجاج على تلك البلاد فقتلوه واستولوا على الأموال ، ثم خطب أصحابه وقال: اشتغلتم بالدنيا عن الآخرة، ثم رمى بالمال في الفرات، و يتحقق مراده إذ يأمر الحجاج الفرسان أن ينطلقوا في طلب شبيب وجيشه واتبعه الطلب فجعل ينعس وهو على فرسه حتى يخفق برأسه، ودنا منه الطلب فجعل بعض أصحابه ينهاه عن النعاس في هذه الساعة فجعل لا يكترث بهم ويعود فيخفق رأسه، فلما طال ذلك بعث الحجاج إلى أصحابه يقول دعوه في حرق النار، فتركوه ورجعوا. ثم دخل الحجاج الكوفة فخطب الناس فقال في خطبته : إن شبيبا لم يهزم قبلها !! ثم إن الحجاج أنفق أموالا كثيرة على الجيوش والعساكر في طلب شبيب فلم يطيقوه ولم يقدروا عليه، - سار شبيب حتى افتتح بلادا كثيرة ولا يبرز له أحد إلا قتله حتى وصل كرمان - وإنما سلط الله عليه موتا قدرا من غير صنعهم ولا صنعه في هذه السنة. مقتل شبيب العجيب كتب الحجاج إلى نائبه على البصرة - وهو الحكم بن أيوب بن الحكم بن أبي عقيل وهو زوج ابنة الحجاج - يأمره أن يجهز جيشا من أربعة آلاف في طلب شبيب، ويكونون تبعا لسفيان بن الابرد، ففعل وانطلقوا في طلبه فالتقوا معه. وكان ابن الابرد معه خلق من أهل الشام، فلما وصل جيش البصرة إلى ابن الابرد التقوا معه جيشا واحدا هم وأهل الشام، ثم ساروا إلى شبيب الذي عاد من كرمان بعد أن إستراح فيها فالتقوا به بجسر دجيل الأهواز فاقتتلوا قتالا شديدا وصبر كل من الفريقين لصاحبه، ثم عزم أصحاب الحجاج فحملوا على الخوارج حملة منكرة والخوارج قليلون ففروا بين أيديهم ذاهبين حتى اضطروهم إلى جسر هناك، فوقف عنده شبيب في مائة من أصحابه، وعجز سفيان بن الابرد عن مقاومته، ورده شبيب عن موقفه هذا بعد أن تقاتلوا نهارا طويلا كاملا عند أول الجسر أشد قتال يكون، وجاء الليل بظلامه فكف الناس بعضهم عن بعض، وبات كل من الفريقين مصرا على مناهضة الآخر، فلما طلع الفجر عبر شبيب وأصحابه على الجسر، فبينما شبيب على متن الجسر راكبا على حصان له وبين يديه فرس أنثى إذ نزا حصانه عليها وهو على الجسر فنزل حافر فرس شبيب على حرف السفينة فسقط في الماء، فقال: ليقضي الله أمرا كان مفعولا، ثم انغمر في الماء ثم ارتفع وهو يقول (ذلك تقدير العزيز العليم) [ الانعام: 96 ] فغرق فلما تحققت الخوارج من سقوطه في الماء كبروا وانصرفوا ذاهبين متفرقين في البلاد . قلب شبيب العجيب !! جاء أمير جيش الحجاج فاستخرج شبيبا من الماء وعليه درعه، ثم أمر به فشق صدره فاستخرج قلبه فإذا هو مجتمع صلب كأنه صخرة، وكانوا يضربون به الارض فيرتفع قامة الانسان. ولما نعي شبيب إلى أمه قالت: صدقتم إني كنت رأيت في المنام وأنا حامل به أنه قد خرج منها شهاب من نار فعلمت أن النار لا يطفئها إلا الماء، وأنه لا يطفئه إلا الماء، وكانت أمه جارية اسمها جهيزة وكانت جميلة، وكانت من أشجع النساء، تقاتل مع ابنها في الحروب. وفيها يقول الشاعر: أمُّ شبيب وَلَدَتْ شبيباً ... هل تلد الذئبة إلا ذِيبا وكذلك زوجته غزالة،- قتلت قبله - كانت أيضا شديدة البأس تقاتل قتالا شديدا يعجز عنه الابطال من الرجال، وكان الحجاج يخاف منها أشد خوف وقد كان شبيب بن يزيد بن نعيم بن قيس بن عمرو بن الصلت بن قيس بن شراحيل بن صبرة بن ذهل بن شيبان الشيباني، يدعي الخلافة ويتسمى بأمير المؤمنين، ولولا أن الله تعالى قهره بما قهره به من الغرق لنال الخلافة إن شاء الله، ولما قدر عليه أحد، - كما يقول إبن خلكان ويوافقه إبن كثير على ذلك - وكان شبيب رجلا طويلا أشمط جعدا، وكان مولده في سنة ست وعشرين هجرية . الطاغية والثورة وجود طاغية مثل الحجاج بن يوسف الثقفي سيكون مدعاة للثورات فقد ضج الناس من ظلمه وحيفه وكان عزله مطلب الخوارج وغيرهم ومن ذلك قول مَصْقَلة بن عتبان الشيباني، وكان من عِلْية الخوارج: وأبلغ أمير المؤمنين رسالة ... وذو النصح إن لم يرع منك قريب فإنك إن لاتَرْضَ بكر بن وائل ... يكن لك يوم بالعراق عصيب ولا صُلْحَ مادامت منابر أرضنا ... يقوم عليها من ثَقيفَ خطيبُ ففي البيت الأخير بينوا مطلبهم بعزل الحجاج لكن العجيب أن الخليفة يصرعلى بقاء هذا الطاغية المبير ولايستجيب لمطالب الناس ولا أدري ماهو سر تمسك الخليفة بالحجاج السفاك للدماء رغم عزله لكثير من الولاة بمجرد شكوى بسيطة ؟!! إيجابيات وسلبيات الدولة الإنصاف يوجب علينا الإشارة إلى أن الهدوء والإستقرار كان يشمل العالم الإسلامي – في تلك الفترة – ماعدا العراق !! والدولة الأموية وحدت العالم الإسلامي بعد عشر سنوات من الحروب الداخلية وكانت الفتوحات الواسعة من سماتها ومع ذلك فنحن نظلمها عندما نقارنها بدولة الخلافة الراشدة لإن دولة الخلافة الراشدة كانت فريدة من نوعها ولكن عندما نقارنها بغيرها من الدول التي ظهرت لاحقا مثل العبيدية بمصر والعباسية وغيرها فالفرق واضح وكبير لصالح الدولة الأموية !! ومع ذلك سنشير إيضا إلى بعض سلبيات الدولة الأموية في تعاملها مع شبيب وثورته : 1- غرور الخليفة عبدالملك بن مروان وعدم تبصرة ورده ذلك الرد الجافي المستهزأ بشبيب . 2- إعطاء بعض مشايخ القبل مالا ومنع من هو مثلهم من الظلم البين الذي لم يتحمله شبيب فلو منع الكل لما جاء إليه شبيب ليطلب حقه .3- إعتمدت الدولة خيار القوة مباشرة ولم ترسل من يتفاوض مع شبيب .4- غفلت الدولة عن مثل هذا الأعجوبة من البداية !! فحقه أن يتقدم ويقود الجحافل للجهاد في سبيل الله . 5- رفض الخليفة عزل الطاغية الحجاج بن يوسف جعل ثورة شبيب تمتد لأكثر من سنتين وتمهد لثورة عارمة قادمة . إيجابيات الثورة لقد طغى الحجاج وتكبر وظلم فأذله الله من حيث لا يحتسب وعير بغزالة في قصيدة ذاعت وسارت بها الركبان هذا أولا . وثانيا : لقد نجحت ثورة شبيب عسكريا نجاحا باهرا فقد هزمت جيوش الدولة هزائم منكرة وتجرع الحجاج ولاول مرة هزائم مذلة من شرذمة قليلة وصال شبيب ومن معه صولة طويلة لثلاث سنوات وهذا النجاح العسكري أسبابه كثيرة منها : 1- القيادة الموحدة وشجاعة شبيب النادرة وبسالة من معه 2- خطته المبتكرة في مواجهة الجيوش الجرارة فلقد جعل يسير بين ايديهم قليلا قليلا وهو يريهم أنه خائف منهم، ثم يكر في كل وقت على المقدمة فيكسرها وينهب ما فيها، ولا يواجه أحدا إلا هزمه . 3- حسن أختيار الخوارج لقادتهم فالقيادة للأجدر ولا مجاملة في ذلك مطلقا . سلبيات الثورة لاينكر أحد شجاعة شبيب ومن معه النادرة ولا يشكك أحد في نيتهم الصادقة ولاخلاف على عبادتهم الباهرة ولاينكر إلا جاهل متعصب وجود مظالم وظلم في تلك الفترة ويكفي وجود طاغية مثل الحجاج تجعل التخلص منه ومن أصحابه وقادته مطلبا يسعى الكثير من أجله وتبذل الأرواح والمهج في سبيله ولكن قراءة ماسبق بعين الإنصاف والنظر فيما جرى بغير إعتساف يجعلنا نتحسر على الدماء التي سالت والنفوس التي أزهقت بغير معنى ولافائدة !! فقد كانت طامة ثورة شبيب الكبرى التي تسببت في عدم إلتحاق الناس بها هي قربها من عاصمة الخلافة وحدوثها في وسط الدولة مما يعني بكل بساطة إحاطة الأعداء من كل مكان !! وهناك سلبيات أخرى نشير لبعضها بإيجاز : 1- تنقلهم من مكان لمكان كان غير مخطط ولامدروس فتحولت ثورة شبيب الباسلة التي من أهم مطالبها إزاحة وعزل الطاغية الحجاج إلى مجرد رعب وفوضى بلا زمام ولاخطام !!!! 2- رمي الأموال في الفرات لايفعله ثائرمصلح يسعى لهدم طغيان وبناء دولة عدل وإحسان !! فالزهد شئ وإدارة الدول شئ آخر !! 3- عقيدة الخوارج التكفيرية بشكل عام – بينما الصفرية التي إعتنقها شبيب ومن معه معتدلة بالمقارنة بغيرها من فرق الخوارج - كانت تنفر الناس منهم . 4- ماجرى في الكوفة من قتل للأبرياء – ذكرنا ذلك في الحلقة الثانية ولانعلم لماذا تم قتلهم ؟ - كان هدية على طبق من ذهب قدمها الثوار للدولة التي إستغلتها إعلاميا إلى أقصى درجة . موقف العلماء من الثورة كان الحجاج الثقفي يسوم العباد في العراق الخسف والتنكيل وبلغ أذاه صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم !! ولم يسلم من شره سوى بني هاشم !! وبإختصار فقد كان شره مستطيرا !! وعندما ثار شبيب ومن معه إختلفت مواقف العلماء : فقسم نظر إليها نظرة عقائدية مجردة فحاربها بلسانه وتعرض لها ببيانه !! وقسم نظر إليها نظرة تحريمية لإنها خروج على ولي الأمر وتشتيت لشمل المسلمين ومابرروا جرائم الحجاج لكنهم دعوا إلى الصبر على ظلمه !! وقسم سكت عنها لكنه في قرارة نفسه كان يتمنى إنتصارها ليس حبا فيها ولكن بغضا في الحجاج !! وقسم كان معها – وهم قلة - لكنه لم يصرح بذلك بل كان يروي أخبارها وفعالات رجالها وماجرى للحجاج على يد غزالة وشجاعة شبيب العجيبة فطارت أخبار الثورة وأرتعب منها الجنود في كل مدينة حتى كانت النساء تخوف اولادها بشبيب !! لكن ماهي إلا بضع سنين من مقتل شبيب وقمع ثورته حتى إندلعت ثورة عارمة شارك فيها غالبية العلماء بما في ذلك من كان يدعوا إلى الصبر على ظلم الحجاج !! ليس هذا فحسب !! بل يخوض معاركها كبار علماء المسلمين مثل الحسن البصري وسعيد بن جبير والشعبي وابن ابي ليلى ... الخ وهذا ماسنتحدث عنه في ثورة علماء المسلمين قريبا إن شاء الله تعالى . [email protected]