اجتاحت المظاهرات عددا من المدن الأوروبية عشية اجتماعات قمة العشرين ثم اجتماعات حلف الأطلنطي. ففي العاصمة البريطانية تظاهر الآلاف بالتزامن مع انعقاد قمة العشرين. وهى المظاهرات التي شاركت في الترتيب والتنظيم لها مئات المنظمات. فكما جرت العادة في مثل تلك التظاهرات الكبرى التي تخرج عشية انعقاد قمم اقتصادية عالمية، تبرز ائتلافات بين منظمات تهتم بقضايا بالغة التنوع والاختلاف ولكنها تتفق فيما بينها على العمل معا من أجل الحد الأدنى المشترك من الأهداف. لكن الأهم من وجود تلك التنظيمات هو في الواقع قدرتها على حشد المواطنين العاديين للاشتراك في احتجاجاتها. وهناك عاملان رئيسيان أسهما في دعم قدرة تلك المنظمات على الحشد اليوم أكثر من أي وقت مضى. أولهما هو أن الكثير من المواطنين في أنحاء العالم يعانون من تردى أحوالهم المعيشية ويشعرون بالقلق العميق إزاء ما يجرى صنعه من قرارات في تلك القمم الدولية ويبحثون عن وسيلة يمكنهم من خلالها التأثير على ما يصدر عن تلك القمم أو على الأقل عن أدوات تمكنهم من التعبير عن مطالبهم ورغبتهم في أن تكون تلك القرارات ذات أثر إيجابي على الأغلبية من الناس لا النخب الاقتصادية. أما العامل الثاني الذي لا يقل أهمية فهو استخدام تلك التنظيمات للتكنولوجيا الجديدة للاتصال بالناس على أوسع نطاق ونشر الوعي بينهم وحشدهم للعمل الجماعي. ففضلا عن استخدام شبكة المعلومات لنشر الوعي بما يدور في تلك القمم وشرحه بشكل يسهل على المواطن العادي فهمه، تستخدم تلك التنظيمات أشكال مختلفة من الاتصالات للدعوة للاجتماعات بل وللدورات التدريبية التي تنعقد من أجل إعداد من يريد لاشتراك في التظاهرات وغيرها من أشكال العصيان المدني كالاعتصامات والإضرابات ومحاصرة مقار الاجتماعات إلخ. بل أكثر من ذلك صارت شبكة المعلومات توفر تغطية إعلامية بديلة تفضح تجاهل وسائل الإعلام للعشرات من القضايا المهمة بل وتكشف عن تعتيمها الواضح على أخبار تلك المظاهرات والتركيز عند تغطيتها على أحداث العنف المحدودة التي تصاحبها، وعلى الجماعات الأكثر راديكالية، الأمر الذي يعطى الانطباع العام بأن تلك الاحتجاجات وراءها مجموعات متطرفة ذات أهداف هدامة ونوايا مشبوهة. لكن الفجوة بين تلك الصورة الإعلامية المغلوطة والواقع لا تظهر إلا بالنظر إلى نتائج القمم نفسها. فرغم الاحتفاء واسع النطاق بقرارات قمة العشرين والتي وصفتها حكومات أغلب الدول الأعضاء بما فيها البرازيل والسعودية بعبارات بالغة الإيجابية والتفاؤل بشأن تداعياتها، فإن ردود الأفعال تختلف كثيرا متى ابتعدت عن الدوائر الرسمية وراحت تستطلع آراء المجتمع المدني العالمي. فعلى سبيل المثال، احتفت الدوائر الرسمية كثيرا بالقرار الذي يقضى بتوفير مليارات إضافية لصندوق النقد الدولي حتى يساعد الدول النامية. لكن السؤال الرئيسي يتعلق بجدوى ذلك القرار في الوقت الذي لم يطرأ فيه أي تغيير على سياسات الصندوق نفسه. وهى السياسات التي تنبع من فلسفة اقتصادية هي نفسها المسؤولة عن الأزمة المالية العالمية بل وثبت أنها أضرت بالفعل باقتصادات العديد من الدول الفقيرة. والشئ نفسه يصدق على امتناع القمة عن وضع آليات واضحة لتنفيذ قراراتها والتأكد من الالتزام بما جاء فيها خصوصا فيما يتعلق بالقيود التي تنظم القطاع المالي. ومن لندن إلى ستراسبورج، حيث انعقاد قمة حلف الأطلنطي في الذكرى الستين لإنشائه، خرج المتظاهرون للاحتجاج والمطالبة بإلغاء الحلف. فحلف الأطلنطي الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية كأداة لحماية أوربا الغربية إزاء الاتحاد السوفييتي والوقوف ضد حلف وارسو، عاش لما يقرب من عقدين بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وانتهاء الحرب الباردة. بل أكثر من ذلك اتسعت مهامه وتم التوسع في صلاحياته. ويرى المتظاهرون الذين مثلوا أكثر من 600 منظمة جاءت من أكثر من 34 دولة حول العالم أن قمة حلف الأطلنطي التي ركزت على دعم خطة أوباما في أفغانستان معناها إعادة تعريف لأهداف الحلف ومن ثم المزيد من التوسع في صلاحياته، الأمر الذي يعنى تكريس الوجود العسكري حول العالم والمزيد من الحروب، ومن ثم فهم يطالبون بإلغاء الحلف الذي استمر بعد انتفاء الهدف الذي نشأ من أجله وتم إعادة تعريف دوره مرات عدة على نحو يزيد من عسكرة السياسة الخارجية الأوروبية والأميركية إزاء المناطق المختلفة من العالم. ولا يمكن في الواقع الفصل بين أهداف القوى التي تظاهرت ضد قمة العشرين وتلك التي تظاهرت ضد النيتو. فهي قوى ترفض النظام العالمي القائم على رأسمالية متوحشة وعسكرة للسياسة الدولية وتسعى لخلق عالم بديل أكثر عدلا وإنسانية. ومن هنا، فإن المفارقة الجديرة بالتأمل حقا هي أنه رغم أن بلادنا من بين تلك الأكثر مصلحة في خلق ذلك العالم البديل إلا أن عواصمها لم تشهد تضامنا شعبيا ومدنيا مع تلك القوى! بل أكثر من ذلك، نقلت الغالبية الساحقة من وسائل الإعلام العربية باستثناءات محدودة عن وسائل الإعلام الغربية انحيازاتها تجاه تلك القوى واحتجاجاتها إما بالتجاهل أو بإعطائها صورة القوى المتطرفة التي خرجت لتخرب أو لتطالب بأهداف مجنونة. المفارقة في ذلك كله هو أن أجهزة الأمن في تلك العواصم الأوربية كانت رغم أدائها الذي اتسم بالعدوانية بل والعنف أحيانا تجاه تلك القوى قد اعترفت بنفسها أن العنف الذي شهدته تلك الاحتجاجات كان محدودا للغاية وأن أقلية هامشية فقط هي التي مارسته بينما ظلت الاحتجاجات في أغلبها سلمية ومنظمة بشكل واضح.