كل الشواهد ترجّح احتمال الضربة العسكرية لسوريا رغم المأزق الظاهر، فهناك في الداخل الأمريكي ضغوط شعبية قوية تعارض الحرب، وهناك في الخارج عزوف دولي عن المشاركة فيها أو تأييدها. والرسالة المخيبة وجّهها من لندن مجلس العموم حيث أمسك ببريطانيا بعيداً عن القضبان التي تسير عليها القاطرة الأمريكية فخسرت أمريكا حليفها التقليدي وإن كان من المتوقع أن تقدم بريطانيا تسهيلات للقوات الأمريكية في قاعدتها العسكرية بقبرص، وفي أوروبا كلها لم يجد أوباما من يشاركه العطش إلى الدم غير هولاند في باريس وأردوغان المشدود من ساقيه بين أوروبا وآسيا والمتشوّق إلى الاتحاد الأوروبي يسير نحوه على قفاه، راجياً دخوله من البوابة العربية، وفي نفس الوقت يجرّه الحنين إلى انكشارية آل عثمان والولوغ مثلهم في الدم والسبي باسم الدين الحنيف؛ ولذلك أبدى حميةً لتدمير سوريا لم يظهر مثلها نتنياهو ولم يزل يعرض نفسه فرساً يمتطيها أوباما باستخدام القاعدة الأمريكية في تركيا..!!. وهولاند الذي بدا أكثر حماساً يدرك أنه يصطدم بضمير فرنسا ولا يعبّر عنه؛ فهو يضعها في موقع أقل استقلالية من بريطانيا مبدّداً كل أثر باقٍ من كبرياء الجمهورية الخامسة ومؤسسها العظيم ديغول ومرتداً نحو أسلافه الاشتراكيين قبل فرانسوا ميتران وإرثهم الدموي في أفريقيا وبأسوأ ما فعله “جان موليه” أثناء العدوان الثلاثي على مصر. إن مقاومة فرنسا لاندفاعات رئيسها المتهوّر يدعمها موقف قلق من الحرب وتداعياتها في الاتحاد الأوروبي، فأكثر ما خرج به اجتماع وزراء خارجيته الأخير هو إدانة استخدام الأسلحة الكيماوية، وذلك ما يقوله الرئيس بشار الأسد ويؤكده وما يتفق عليه العالم ويؤيده. ولا حديث عن دول الخليج العربي كمكمل للتحالف إلا إذا كانت قطر تستحق وحدها التفاتة ما، وكان وزير خارجيتها السابق بأناقة مظهره وهدوء صوته يحاول الإيحاء أنه يمثّل دولة كبيرة تتصدر المشهد في الحرب على ليبيا، ولا يبدو أن الوزير الحالي يجيد الدور، غير أن كلاً منهما لم يؤكد أكثر من أن شعب قطر معتدى عليه من أسرة حوّلت بلاده إلى شركة غاز ومخزن سلاح لاسرائيل عبر القاعدة الأمريكية “العديد” وبإضافة اسرائيل إلى هذا الحلف غير المقدّس تتجرّأ الإدارة الأمريكية على الحديث عن مجتمع دولي. والأصل أنه، ومن الناحية القانونية المجرّدة، لا يحق لدولة أو مجموعة دول التحدث باسم المجتمع الدولي أو التصرُّف نيابة عنه، لأن ممثله الوحيد هو الأممالمتحدة كتنظيم أممي موكل إليها الحفاظ على الأمن والسلم الدوليين. ولا يخفى أن توازن الرعب النووي وليس الأممالمتحدة حمى العالم من كارثة حرب عالمية ثالثة؛ ولا يخفى كذلك أن حق «الفيتو» جرى التعسف في استخدامه مرات عديدة بإجهاض الإرادة الدولية في منع اللجوء إلى القوة لحل المنازعات أو استخدامها لاحتلال أراضي الغير وسلب حقوقهم، وأن الولاياتالمتحدة أكثر من استخدم هذا الحق بالتعسف واستخدمته دائماً لصالح اسرائيل وضد العالم العربي؛ لكن أحداً لا ينكر أن الأممالمتحدة نجحت أحياناً في معالجة بعض الأزمات الإقليمية ونزعت عنها فتيل الحرب، وفي أوقات أخرى استطاعت أن تقلّص مدتها أو تحد من انتشارها، كما أن أحداً لا ينكر أهمية الخدمات التي تقدّمها للمجتمع البشري الهيئات والمنظمات المتفرعة عن المنظمة الدولية، وحتى تتوافق دول العالم على تطوير ميثاقها بما يعالج أوجه القصور فيه أو تنشأ هيئة دولية جديدة؛ فإن المنظمة الحالية لاتزال التعبير القانوني الوحيد عن المجتمع الدولي، ولقد تجاوزت الولاياتالمتحدة هذا المبدأ بعد انهيار المنظومة الاشتراكية وتفكك الاتحاد السوفيتي، وأعطت المجتمع الدولي مفهوماً تعبّر عنه إرادة مجموعة دول في إطار ما سماه مفكرون وسياسيون في الغرب «النظام العالمي الجديد» ومثّلت الحرب على العراق الحالة الأولى في التصرُّف باسم المجتمع الدولي وخارج إطاره القانوني، ثم ذهبت الولاياتالمتحدة وحلفاؤها بعيداً في العبث بالمعايير الدولية، وكانت أن استخدمت حلف الاطلنطي بالحرب في كوسفو بعيداً عن ميثاقه كمنظمة دفاعية، وفي الحرب على ليبيا تخطّت قرار مجلس الأمن بإقامة منطقة حظر جوي إلى حرب مباشرة استدعت إليها أيضاً حلف الاطلنطي. وإزاء الأزمة في سوريا، وبغض النظر عن انتفاء الذرائع وضعف الدعاوى، يضمر المجتمع الدولي إلى هذه الشرذمة القليلة من الدول والدويلات مضافاً إليها القوة الأعظم، ثم يتقلّص فيها وحدها طبقاً لما أكده أوباما ووزير خارجيته أنها ستخوض الحرب منفردة إذا اقتضى الأمر؛ ثم مع عزوف الشارع الأمريكي عن الحرب يتلّخص المجتمع الدولي في مجموعة مغامرين بالبيت الأبيض والبنتاغون ووزارة الخارجية. واقع الحال أن المجتمعات الأوروبية والأمريكية ملّت الحروب وعانت ضرائبها؛ حتى لا نجد الساسة الأمريكيين يكررون القول إنهم سيكتفون بضربات صاروخية لن تشتمل على إنزال عسكري، وفي داخل البرلمانات تبدو عدم الثقة بتكوين رأي مؤيد في التمهيد لاجتماعات الكونجرس بتوزيع مئة تسجيل فيديو في غوطة دمشق، وفي احتقار مقيت للقانون قال جون كيري: “لا يجب أن نتحجج بالقانون وإنما علينا أن ننظر إلى الصور” غير أنهم يتجنبون صور المتطرفين الإسلاميين وهم يذبحون رجال الجيش ويبقرون بطونهم ويمضغون قلوبهم؛ ولا يُعرف ما إذا كان التأثير النفسي سيقود المشاهدين من النواب إلى تصوّر منظر عشرات الآلاف من الضحايا الذين ستقتلهم الصواريخ الأمريكية والفرنسية..!!. هناك سبب آخر برفض الرأي العام في أوروبا وأمريكا الحرب، فهم لا يثقون بما تقوله حكوماتهم بعد أن افتضح كذبها في تبرير حربهم على العراق، وللمرء أن يترك لضميره اختيار الكلمة المناسبة في وصف وزير خارجية فرنسا الذي تحدّث في المؤتمر الصحفي المشترك مع نظيره الأمريكي السبت الفائت وقال إن العراق لم يكن يمتلك أسلحة دمار شامل؛ وأما في سوريا فقد ثبت استخدامها ولم يقل إن الحرب على العراق كانت خطأً أو أنه سوف يتبين الكذب بعد الأهوال والدمار في سوريا. وهناك سبب ثالث يتمثّل في الهلع الذي يثيره بأوروبا عنف الجماعات الاسلامية، حيث سوريا الآن المعمل الثاني بعد أفغانستان لإنتاج كتائب دموية سوف تنشر الموت في العالم وأوروبا أقرب إليها وأدعى للجهاد على أرضها لمحاربة الكفر..!!. وليس من أجل هذا وحده تناهض الكنيسة الكاثوليكية الحرب، ويدعو بابا الفاتيكان العالم إلى الصلاة والدعاء من أجل السلام في سوريا، إنما هو جوهر المسيحية “المجد لله في السماء وعلى الأرض السلام” وهو المبدأ نفسه الذي جعل الأزهر الشريف منبر الإسلام يتوجّه بالرجاء إلى الله أن يمنع الحرب عن سوريا ويدعو العالم إلى التفكير في مخاطرها وعواقبها، وقد تكون ثمة غرابة أو لا تكون أن يتفق أوباما وأردوغان وأن يجهل القرضاوي بما يخفيه نتنياهو وأن يشترك الاخوان المسلمون مع المنظمات الصهيونية في الحث على سوريا وإن كانت هذه الأخيرة تشتغل من وراء الأستار كثيراً وقليلاً من أمامها، بينما الاخوان المسلمون ومن معهم لا يختفون وراء أي حجب. والواقع أنه منذ الحرب على العراق يتكشف شيء غريب في الممارسة السياسية بالوطن العربي وهو التحوّل من العمالة المستترة إلى الخيانة الصريحة، فجميع من اشتغل مع الاستعمار ضد بلدانهم كانوا يوارون أفعالهم ويحاولون إخفاءها بغلالات من الأفعال والكلمات وذلك ما لم يستحِ منه خونة الحاضر. يبدو أن مناهضة الكنيسة في روما لا تردع أوباما، وأن غضب الأزهر في مصر لا يعني أردوغان، وليس في ما تجديه الشعوب من رفض للحرب شيء يزعج أبطالها في واشنطن وباريس وفي تل أبيب وأنقرة، وكان المعوّل على ان تخرج قمة الدول العشرين في سان بطرسبورج باتفاق على العودة إلى مجلس الأمن ما يعطي الرئيسين الأمريكي والفرنسي سبيلاً إلى الخروج بماء الوجه؛ لكن المواقف بقيت على تصادمها وإن كان هولاند قد عاد وتذكّر مجلس الأمن؛ وذلك يوحي أن بوتين كان لديه ما يهدّد به. وسيكشف خطاب أوباما المقرر اليوم قراره النهائي، وقد يجد في اقتراح الرئيس الفرنسي بشأن مجلس الأمن مخرجاً، وأما إذا سار مع الغطرسة إلى النهاية؛ فذلك دليل عقدة لديه وتصور أن الحروب باتت شارة الخلود لأي رئيس أمريكي، ثم إنها علامة جهل بدرس التاريخ في صعود وانهيار الامبراطوريات؛ ذلك أن أمريكا وهي تخسر أخلاقياً مرةً بعد الأخرى إنما تضع عقرب الساعة عند النقطة صفر لبداية السقوط. والواضح أن المنحنى بدأ يغيّر اتجاهه من اللحظة التي وصل قمته مع انهيار الاتحاد السوفيتي، ولم يزل يتحرّك بطيئاً وعرضياً على نحو ما، وقد يمر وقت طويل حتى يتخذ مساره الحاد، وذلك أمر محتم حين تفتقد السياسة للأخلاق، والسياسة الأمريكية تفتقدها دائماً ودائماً؛ لكن على العالم ألا ييأس؛ فقد يقهر الرجاء إلى السماء جنون الحرب وكذلك قد يزأر الدب الروسي وربما ينتفض. رابط المقال على الفيس بوك