باتت الحاجة ملحة لإعادة الاعتبار ل"البن اليمني" الذي كان يعرف ب"موكا"، نسبة إلى ميناء المخاء الذي كان يصدّر منه، وشهد في الماضي القريب شهرة عالمية من حيث جودته التي فاقت كل أصناف البن في الدول المنتجة والمصدّرة في العالم، وأصبح حاليا يعاني من تدهور مستمر في الطاقة التصديرية. دراسة للمنظمة العربية للتنمية الزراعية أشارت إلى أن الطاقة التصديرية للبن اليمني قُدرت بأكثر من 12 ألف طن قبل الحرب العالمية الثانية، ثم بدأ بالتراجع نتيجة التدهور المستمر في مساحة إنتاجية المحصول بفعل العديد من العوامل الاقتصادية والاجتماعية والتكنولوجية والطبيعية. وبحسب المنظمة، فقد قدرت الإحصائيات الرسمية للكميّة المصدّرة من البن اليمني في 2007 بنحو ألفين و527 طنا، مقابل الزيادة المستمرة في كميّة الاستيراد من البن التي وصلت في العام نفسه إلى ما قيمته أكثر من مليار و100 مليون ريال، ما يمثل عبئا كبيرا على الميزان التجاري اليمني. عدد من الباحثين الزراعيين في فرع الهيئة العامة لأبحاث المرتفعات الجنوبية بتعز نفذوا خلال 2008-2009 دراسة بحثية ضمن الجهود البحثية لمشروع "بحوث تطوير البن على المستوى الوطني"؛ نظرا لعدم توفّر دراسات تسويقية ميدانية جادة للبن تعكس واقع تسويق البن بمراحله وأدواته ودور أطرافه المختلفة والمنافع التسويقية، هدفت إلى تحديد المراحل والعمليات والمنافع التسويقية وتكاليفها وأساليب إنجازها، وأثر ذلك على كفاءة التصدير، وتحديد وتحليل أهم أسباب ومعيقات تطوير التصدير كماً ونوعاً وإمكانات التطوير، والمساهمة في تحديد أولويات بحوث تطوير المحصول، وكذا المساهمة في تحسين كفاءة تصميم التقنيات والتوصيات البحثية. الدراسة التي حددت عيّنة من المواقع والمزارعين في كل من محافظة صنعاءوحجةوالمحويت، أوصت بضرورة تدخل الجهات المعنية الرسمية سريعا بتقديم قروض نقدية لمزارعي البن خلال الموسم وبشروط ميسّرة تشجّعهم على الاستمرار والاهتمام بالمحصول وبيعه، وبالأسعار التنافسية. كما أوصت الدراسة المزارعين بتشكيل جمعيات تعاونية وإنتاجية وتسويقية؛ لتسهيل تقديم الخدمات لهم في مجالات: الإقراض، التسويق، وتحسين الطرق. وأشارت الدراسة في استنتاجها إلى أن الطريقة السائدة لدى المزارعين لقياس كميّة المحصول في مواقع الدراسة تتم بالوزن ب"الفراسلة" وأجزائها: الرطل. أو بالكيل بالقدح وأجزائه: الثُّمن، النفر. بينما الطريقة السائدة بالأسواق، هي الوزن ب: الطن وأجزائه: الكيلوجرام، وبالتالي فإن هذا التباين في القياس بين المزارعين والتجار يتسبب في عدم الدّقة وعدم الوضوح وضعف الثقة في التعامل عند التداول، ولذلك فإنه ينبغي على الجهات المعنيّة الرسمية بذل المزيد من الجهود لتوحيد المقاييس وتوعية المزارعين بذلك. وأوضحت أن البن يساهم بنسبة متدنية نسبيا في إجمالي دخل المزارع، مقارنة بمحاصيل تسويقية أخرى منافسة بيئيا للمحصول، وأعلى ربحية منه، كالقات، وبعض محاصيل الفاكهة والخضار، ولذلك فإن مزارعي البن في مواقع الدراسة لا يتمكنون من الاعتماد على البن فقط كمصدر للدخل، في حين يمكنهم الاعتماد على أي من المحاصيل المشار إليها كمصدر وحيد للدخل، ولذلك ينبغي بذل المزيد من التدخلات الكفيلة بتحسين العائد من وحدة المساحة المزروعة بمحصول البن. كما أوضحت الدراسة أن قيام بعض مزارعي البن في التوسع بزراعته خلال العشر السنوات الخيرة بمواقع الدراسة لم يكن عن قناعة منهم بربحيته العالية، وإنما لاعتبارات أخرى، منها: ما لديهم من خبرات متوارثة في إدارة المحصول، وأن المحصول يحقق لهم اكتفاء ذاتيا من القهوة، يغنيهم عن شرائها أو شراء السلع البديلة كالشاي. ولكن ذلك غير طافٍ على التطوير والتوسّع في زراعة وإنتاج المحصول ما لم يحقق المحصول للمزارع والمستثمر أرباحا عالية ومشجّعة، وهو ما يمكن تحقيقه، حسبما تبيّن لاحقا. وبيّنت الدراسة في استنتاجاتها أن تطوير إنتاج وتصدير البن كماً ونوعاً ليس مرهونة بصفة رئيسية المزارع توصيات فنية أو تقنيات محسّنة، كما قد يظن البعض, فنتائج الدراسات المتاحة لا تشير إلى أن المشكلة الرئيسية المعيقة لتطوير محصول البن هي ارتفاع تكاليف إنتاجه، ولا في تدني إنتاجيته, بقدر ما هي مرهونة بتبنِّي الدولة لسياسة سعرية فاعلة تستهدف تحسين ربحية المزارع من المحصول، وجذب المستثمر لانتهاج المحصول على نحو تجاري، وذلك من خلال اعتماد الدولة لسياسة منع استيراد البن الخارجي وتشجيع الإنتاج الموجّه معظمه للتصدير. وقالت الدراسة إنه يمكن اعتبار البن محصولا استراتيجيا للاقتصاد اليمني، بحيث يمكن التعويل عليه مستقبلا لتحسين الميزان التجاري، وبالتالي يستحق أن يحظى بسياسة تشجيعية فاعلة لتطوير وإنتاج وتصدير المحصول كماً ونوعاً، وإذا اعتبر البن محصولا استراتيجيا للاقتصاد اليمني، فإن ذلك يعتمد على عدد من المزايا الاقتصادية الهامة، منها: أن البن اليمني سلعة مطلوبة في الأسواق العالمية، وبأسعار مرتفعة، مقارنة بنظيره المنتج في الدول الأخرى، وذلك لما يتميز به البن اليمني من شهرة عالية الجودة (النكهة المميزة، احتوائه على أقل نسبة من الكافيين)، وتوفّر الخيارات المتوارثة في إنتاج وتسويق المحصول، وتوفّر مساحة واسعة ملائمة لزراعة المحصول بصفة تجارية، وذلك لاتساع النطاق المناخي الملائم للمحصول في اليمن، وعدم حاجته إلى تكاليف استثمارية وتشغيلية كبيرة لإنتاجه، مقارنة بغيره من المحاصيل التسويقية. وقسّمت الدراسة فئات المزارعين (عيّنة الدراسة) عند بيع محصول البن إلى ثلاث فئات، الفئة الأولى: تعاني من شحة السيولة أثناء الموسم، فتضطر إلى اقتراض مبالغ نقدية من بعض تجار البن حتى يحين بيع المحصول، فأنها تضطر إلى بيعه لهم، وبالشروط والأسعار التي يفرضونها (تجار البن) غالبا. والفئة الثانية: مزارعون يعانون من مشكلات نقل المحصول إلى الأسواق فيضطرون إلى بيع محصولهم في أقرب مكان من مزارعهم يتواجد فيه التاجر المشتري، ولا يسلم المزارعون في هذه الحالة من تحكُّم أولئك التجار بالأسعار. أما الفئة الثالثة: ينقلون محصولهم إلى السوق المتواجد في مركز المديرية أو المحافظة. يشار إلى أن الدراسة حددت عيِّنة المواقع والمزارعين في كل من محافظة صنعاءوحجةوالمحويت، وذلك خلال اختبار أهمّ المناطق المشهورة بزراعة المحصول في كل من المحافظات المذكورة، ومن كل منطقة تم اختيار ما لا يقل عن مزارعين من مزارعي المحصول، لا تقل حيازة كل مزارع عن حقلين مزروعين بأشجار بن في طور الإنتاج، وتم النزول الميداني إلى المواقع المحددة خلال مواسم جني, تجفيف, تسويق المحصول، ووفقا لظروف كل موقع، إضافة إلى اختيار وزيارة الأسواق في كل من المدن والأسواق التالية: "صنعاء، الحديدة، باجل، حجة، المحويت، الحيمة الخارجية، الرجم، الطويلة، شبام". شملت هذه الزيارات لقاءات مباشرة مع المزارعين, التجار, وتدوين البيانات بواسطة استمارات خاصة بالتجار وأخرى بالمزارعين. إضافة إلى ذلك، تم خلال الزيارات مشاهدات ميدانية لظروف الحقل، حالة الأشجار، أساليب وأدوات وطرق إنجاز عمليات الجني، التجفيف، الفرز، التدريج، النقل، التقشير، التحميص، الطحن، وتم توثيق المشاهد والممارسات والأدوات والعيِّنات من خلال التصوير، وغيرها.