*يوسف شلي منذ سنوات، كان خطاب تركيا باتجاه أكراد العراق يتسم بالعدائية والاستفزاز والقوة. وهذا التوجه الحربي من قبل المؤسسة العسكرية التركية القوية، كان أقرب إلى التهديدات منه إلى الفعل الميداني المباشر (وهو موجه بالخصوص إلى أسماع الأتراك). غير أنه، ومنذ أن صوت البرلمان التركي على قرار غزو شمال العراق والقضاء على المسلحين في حزب العمال الكردستاني في 17 أكتوبر/تشرين الأول 2007م، فإن تهديدات أنقرة أصبحت تتداولها الصفحات الأولى في الصحف العالمية. إن الغزو المحتمل للعراق من طرف تركيا، يهدف إلى تحقيق نقطتين أساسيتين: 1 — سحق حزب العمال الكردستاني من خلال القضاء على أكبر عدد ممكن من المقاتلين الشرسين، وتحييد قواعده في جبال قنديل. 2 — تدمير حكومة إقليم كردستان (GRK)، بحجة رفضها التحرك ضد PKK، وسماحها بوجودهم فوق أراضيها، وغض الطرف عما تقوم به من هجمات وعمليات مسلحة على دولة ذات سيادة، تصنفها أنقرة والعديد من الدول الغربية ومنها واشنطن بأنها "عمليات إرهابية". في هذه اللحظات، يبدو أن الأتراك استبعدوا تماما النقطة الثانية في برنامج "الغزو"، وهو خيار تصفية حكومة إقليم كردستان. يبقى أن الاحتمال الأول يصعب التكهن في شأنه، علما أن الخبراء في المجال العسكري يستبعدون هم أيضا الحسم العسكري، بهذه السهولة التي تروجها الوسائل الإعلامية التركية، نظرا لصعوبة اختراق المواقع المحصنة في الجبال العتيدة التي تشتهر بها كردستان، التي كانت في الماضي حصنا منيعا لأكراد العراق في صراعهم مع نظام صدام حسين، إضافة إلى ما يتمتع به المقاتلوين من روح عسكرية عالية، وتسليح عصري ملائم في أي مواجهات مع الجيش التركي (حرب العصابات). كما أن هناك أسبابا كثيرة أخرى، تجعلنا نتفهم التردد التركي في حسم المسألة من الناحية العسكرية، لأن التوغل في شمال العراق من أجل مطاردة عناصر حزب العمال الكردستاني، لن يكون بالأمر الهين، بل ستكون عواقبه وخيمة بالنسبة للأتراك، حيث سيجدون في مواجهتهم ليس المقاتلين الأكراد الأتراك فقط، بل كل أكراد كردستان العراق، من العراق، سوريا، إيرانوتركيا. إننا نعيش عصر تدفق المعلومات والأخبار السريعة، وكل مناطق العالم موصولة بالشبكة العنكبوتية. وأغلب سكان المعمورة، ومنهم الشرق الأوسط، يمتلكون الهاتف الخلوي، ويرسلون كل يوم الملايين من الرسائل فيما بينهم. ويستحيل حاليا إخفاء الأسرار التي قد تنجم عن المواجهات، كما كان الحال في السنوات العشر الماضية، سواء من خلال الخسائر المحتملة من الجانبين أو انتهاك حقوق الإنسان. الهجوم الكبير والشامل على كردستان العراق أو حملة الضربات الجوية على جبال قنديل، قد يجر حتما إلى وقوع ضحايا مدنيين في الجانب العراقي. كما أن صور معاناة الشعب الكردي، القرويين في منطقة برواري"، بالقرب من الحدود التركية، وسكان القرى والبلدات في قنديل، هم نفسهم الأشخاص الذين عانوا من قبل عملية إطلاق الغازات والمواد الكيماوية في المدينة الكردية المشهورة "حلبجة" من طرف النظام السابق في العام 1980م سيتم تداولها بشكل كثيف في وسائل الإعلام العالمية. إن المجموعة الدولية، وخاصة الأوروبية والأمريكية، قد لا تقبل بحدوث مثل هذا السيناريو المكلف في كردستان، ولن تخفي امتعاضها من الصور التي قد تتداولها وكالات الأنباء العالمية والفضائيات لهروب آلاف السكان من مناطق القتال والصراع، بسبب "وحشية" الجيش التركي، العضو الفاعل في حلف شمال الأطلسي الناتو، بلباسهم العسكري وأسلحتهم الأمريكية، الذي لا يفرق بين العسكريين والمدنيين العزل. وفي مواجهة العمليات العسكرية التركية، فإن المجموعات الصغيرة المقاتلة الكردية لحزب العمال الكردستاني، ستعمد إلى الاختفاء في الطبيعة، وسيتركون هدفا واحدا للطائرات والمروحيات والدبابات التركية: جبال قنديل الوعرة، أين تتمركز فيها القواعد الأساسية لحزب العمال الكردستاني، إلا أن هذه الارتفاعات، القريبة جدا من الحدود الإيرانية-العراقية، لا تمثل هدفا سهلا، بل العكس من ذلك، فإن هذه المناطق الجبلية، تعتبر الأوعر في كردستان، والقيادة العسكرية التركية على علم بذلك. طرق متقطعة وضيقة، منعرجات خطيرة، أودية جافة، انزلاقات ترابية، تساقط الحجارة...هي طبوغرافية مرتفعات قنديل، وتبقى السيارات ذات الدفع الرباعي، هي الوسيلة الوحيدة التي بإمكانها أن تصول وتجول فيها، وتنتقل بين القواعد المنتشرة في المنطقة. في الجبال، أغلب التحركات تتم بالتنقل على الأقدام، من خلال طرق ومنحدرات ملتوية، يدركها عناصر حزب العمال الكردستاني جيدا، كما بإمكانهم التحرك ليلا وبسهولة تامة في شعابها، دون أن يعيقهم عائق مهما كان حجمه. وتنتشر شبكة قواعد تجمع مقاتلي PKK في هذه الجبال، مختفية وبعيدة عن الأنظار. ومن الصعوبة بمكان اكتشافها من الجو، وأن إطلاق الصواريخ عليها سيتسبب لا محالة في خسائر في صفوف المدنيين أكثر منها في صفوف المقاتلين. في الوقت نفسه، من المستبعد أن تدخل المروحيات الحربية التركية ساحة القتال في أعالي الجبال. وخلال الغزو السوفيتي لأفغانستان، وفي مناطق جبلية صعبة، مثل تورا بورا وبنشير مشابهة لجبال قنديل، التي عرفت مواجهات دامية بين المجاهدين الأفغان والعرب من جهة، والجنود السوفيات من جهة أخرى، كانت المروحيات عرضة للصواريخ وإطلاق النار، وتسبب ذلك في إسقاط وتدمير العشرات منها، حتى أصبح يطلق عليها من طرف المقاتلين الأفغان: "النعوش الطائرة". والوسيلة الوحيدة بالنسبة للأتراك، لتسجيل النقاط على حساب حزب العمال الكردستاني، هي نشر قوات برية في جبال قنديل، التي تبعد بساعات عن الحدود التركية - العراقية، مما يعتبر عند البعض مخاطرة ومجازفة غير مدروسة الجوانب، كون مواجهة الجيش التركي لحزب العمال الكردستاني في حرب عصابات يتقنها الأكراد، ستعقد من مهمة الجيش في تحييد المقاتلين والقضاء عليهم. والدليل على ذلك، المواجهات السابقة في السنوات الماضية التي كانت بين الطرفين ولم تحسم فيها تركيا المواجهة لصالحها. إن عملية إنزال الجنود في داخل شمال العراق، قد تثير حكومة إقليم كردستان (GRK)، وعلى احتمال حدوثها، فإن على تركيا أن تأخذ الموافقة المبدئية من الولاياتالمتحدةالأمريكية، علما أن تركيا امتنعت في السابق عن تقديم المساعدات اللازمة للقوات الأمريكية من أجل إسقاط نظام صدام حسين. في حين، يستغرق انتقال الجنود برا بعض الوقت، لأن الأمر يستدعي أكثر من خمس ساعات في الطريق، للوصول إلى قنديل من الحدود التركية. على أية حال، فإن الدبابات وناقلات الجند تسير ببطء شديد، ما يجعل من أهداف العملية العسكرية المتوخاة السرعة والانقضاض تسير هي أيضا دون مفاجآت تذكر. كما أن تحرك القوات العسكرية التركية في منطقة قنديل، يثير عدة إشكالاات لتركيا، تتعلق بالوقت والكلفة المالية، وخلاف هذين الأمرين، ستجد أنقرة نفسها في منطقة معادية لها، لأن المدنيين الأكراد وقوات البشمركة العراقية، لا تحمل ودا للجيش التركي في قلوبهم. في الوقت نفسه، سيجد الجيش التركي نفسه متورطا بشكل مباشر في صراع غير متكافئ الجانبين، وهو يحاول حماية الإمدادات التي تنطلق من الحدود التركية في اتجاه قنديل. وإذا كانت وسائل الإعلام التركية تقرع طبول الحرب، وتحرض الجيش لاتخاذ زمام المبادرة ومعاقبة من تسبب في قتل الجنود وأسر البعض منهم، إلا أن القيادة العسكرية التركية المتمثلة في الجنرالات، وهم في عمومهم، عسكريون محترفون، يعلمون أن حملة عسكرية في كردستان العراق، وخصوصا في قنديل، ستكون وخيمة على أكثر من صعيد، وستتجاوز آثارها الحدود الدولية، وستتداخل مصالح كل الأطراف في المنطقة لتطبق على ما تبقى من عقل ومنطق. الأيام ستخبرنا إذا كان هذا هو الحال!! *مجلة العصر