"جيش يفترض أنه (وطني وشعبي، حامي سلامة أرض الوطن واستمرارية مؤسسات الجمهورية) لا يحق له اللجوء إلى الإرهاب لمحاربة الإرهابيين. ليس هناك منطق ولا استراتيجية عسكرية يمكنها تبرير قيام الجيش بإغتيال آلاف المواطنين بذريعة (استئصال الإرهاب). لاشيء، لاشيء مطلقاً يمكن أن يبرر الموت المجاني لعشرات آلاف المدنين". تعمد الكاتب أن يبدأ بجزء من مقدمة لضابط جزائري مظلي يدعى حبيب سويدية شارك في العشرية السوداء الجزائرية (الحرب الأهلية)؛ ووضع كتاباً أسماه (الحرب القذرة) كتبه بعد ثلاث سنوات من الحرب عندما فرَ هارباً إلى فرنسا وحصل على اللجوء وقدم إعترافاته لمحكمة العدل الدولية؛ ليوضح كيف تبدو الصورة بعد سنوات الحرب الأهلية ودفع العسكر إليها، والدفع بذات الخيار المثخن بجراح التفرق والتمزق والإستعباد. في مصر يبدو أن الإنقلابيين يسعون للدفع نحو تجربه شبيهة بالحالة الجزائرية 1990-2000 التي راح ضحيتها 150.000 مواطن في فاجعة أفريقية؛ ويحاول الفرق عبدالفتاح السيسي وضع الأمر على قائمة الإنقلابات الأشد دموية والأكثر تأثيراً في التاريخ المصري. إرتكب الجيش المصري إبادة جماعية لمواطنين وصفت بالأسوأ في تاريخ مصر، فدخول العسكر في وحل السياسة يحول الدولة إلى معسكر، وتتم عسكرة السياسة وكل مناحي الحياة الإجتماعية، فالموافقة الأمنية ضرورة ملحة في حكم العسكر، ولهذ يسعى الجيش إلى إبادة التجمعات الأكثر تنظيماً حتى يتسنى له الحكم بحرية بدون إختلالات وبلا معارضين، والكأس الذي يسقى منه معارضو الإنقلاب اليوم سيسقى مؤيدو الإنقلاب بكأس أشد مراره من السابق في حال إستمر العسكر في الحكم. العسكر ليس مكانهم أوساط العاصمات أو الظهور بخطابات لأكثر من ساعتين لتبرير قتلهم للشعب ، وإصدار كم هائل من الأيمان المغلضة ؛مكان أي جيش هي الحدود والجبال لحماية الوطن، لا تحويل الدولة إلى بيادات وبيادق لنشر الرعب والخوف داخلها. لايمكن القول أن العسكر جلبوا ديمقراطية وحرية للشعوب في إنقلابتهم على الأقل طوال القرن الماضي والتي سميت ظلماً ثورات، وماهي إلا أنصاف ثورات، تحررت الشعوب من الإستبداد والإستعمار إلى ذات الإستعمار الداخلي وذات الإستبداد. في مصر أحضر إنقلاب عسكري الإستبداد طوال الستين عاماً الماضية والدعوة لإعادة قراءة إنقلاب جمال عبدالناصر على الرئيس الشرعي محمد نجيب 1954م، وذبح بعدها عبدالناصر كل أنواع الحريات التي بدأت تدشن مع بداية الجمهورية وإسقاط الملك فاروق. نفذ عبدالناصر في ليلة واحدة 28ألف معتقل، وقتل العشرات في سجن ابوزعبل، ونفذ أحكام الإعدام بحق قيادات الإخوان المسلمين بسبب مطالبتهم وقتها بإعادة المسار الديمقراطي للدولة بعد الإنقلاب على الرئيس. كان عبدالناصر سكران بالسلطة وبحسب غراهام -أحد مسؤولي الوساطة الأمريكية في مصر والتي أنتهت قبل فض إعتصام رابعة بأيام - فإن الفريق السيسي سكران أيضاً بالسلطة، وصف غراهام البيلاوي بالكارثة بعد أن تحدث عن حظر جماعة الإخوان المسلمين وإدخالها السجون عن بكرة أبيها، ويبدو أن غراهام كان يعرف أن هناك إعتقالات قادمة كان آخرها إعتقال المرشد الدكتور محمد بديع. وفي إعتقاد الكاتب أن الفريق السيسي يسعى إلى محاولة إقتباس مايهمه من ثلاث تجارب يصل من خلالها للسلطة ففي كيفية التعامل مع النظام الشرعي الذي أنقلب عليه يحاكي تجربة إنقلاب الجيش التركي 1960م وإنقلاب كنعان أفرن التركي في 1980م، وفي محاولة التعامل مع الشارع يحاول أن يقترب مع النموذج الجزائري (الحرب الأهلية) 1990-2000، وفي وصوله إلى السلطة يسعى لتكرار تجربة رومانيا 1989-1990 عندما نجحت الثورة المضادة. ويمكن إستبعاد السيناريو السوري من الأذهان لإن الطبيعة الجيوبولتكية لمصر وسوريا مختلفتان لحد بعيد ولا مجال لشرحها في هذا المقال. عصابة ال60عاماً وبالتأكيد فإن الجيش لايسعى فقط إلى توسيع المافيا العسكرية داخل الدولة، بل يبحث عن التحكم بمسار وهوية الدولة وتحويلها ملكية خاصة للجنرالات المتكتلين تحت عصابة واحدة كما كانت طوال السنوات الستين الماضية، وبالعودة إلى مذكرات محمد نجيب فقد وصف عبدالناصر ورفاقه أنهم عصابة سعت لتحويل مصر إلى ملكية خاصة وصناعة زعامات وهمية من أجل تبرير السرق والنهب؛ وإن تحول الجنرال في صباح نازي وفي الليل فاشي مقيت يُخيل إليه أن ذبح الشعب وإرتكاب الإبادات الجماعية بحق مواطنية ستخيف المواطنين ويتوطد أركان حكمة من خلال إستغلال القوى العلمانية واللبرالية الحالمة بالوصول إلى السلطة والمتعفنة في مؤاخر البيادات فالتجربة المصرية تعيد للأذهان الإنقلابات العسكرية على الديمقراطية والدور الذي لع�'بة اللبراليون والقوميون في إعادة الحكم للإستبداد والدكتاتوريات. في تركيا وصل الحزب الديمقراطي بقيادة عدنان مندريس إلى السلطة 1950 وجرى الإنقلاب عليه في 1960 من قبل الجيش التركي بعد محاكمة صورية قضت بسجن رئيس الجمهورية مدى الحياة، وحكمت بالإعدام على مندريس ووزير خارجيته فطين رشدي زورلو ووزير ماليته حسن بلاتقان، بتهمة اعتزامهم قلب النظام العلماني وتأسيس دولة دينية، وتم تنفيذ حكم الإعدام في اليوم التالي لصدور الحكم في أواسط سبتمبر من عام 1960، ليكون بذلك عدنان مندريس، أول ضحايا العلمانيين في الصراع الداخلي بتركيا. في مصر اليوم، تبدو الصورة أقرب إلى ما جرى في تركيا عام 1960 من انقلاب للعسكر على الديمقراطية وإرادة الشعب- مع الفارق بين التجربيتن- حيث إن الانقلاب العسكري الذي جرى ضد الرئيس محمد مرسي، سبقته ذات المقدمات التي مهدت للانقلاب على مندريس، بعد اصطفاف القوى العلمانية وحشدها لأنصارها، وذلك بدعم من جهات خارجية وتنسيق مع العسكر في سيناريو خبيث بتغطية إعلامية مدروسة أوهمت المصريين بأن الأمر يتعلق ب"ثورة"ضد الرئيس مرسي. ومن المؤكد أن الأمر في زمان عدنان مندريس لم يكن ببساطة روايتنا وإختصارها هنا، فمن المؤكد أن إشارات كثيرة قد أرسلت من وراء الحدود وأن أضواءا خضراء قد أنيرت من هنا وهناك ككل الإنقلابات التي حدثت عبر التاريخ. وفي عام 1980 قاد الجنرال كنعان إفرن انقلابا عسكريا ضد الحكومة الديمقراطية التركية. يعد شبيهاً إلى الإنقلاب العسكري المصري2013 والإنقلاب على رئيس الوزراء عدنان مندريس . فأوجه التشابه :- نتائج الحروب القذرة وفي نتيجة الإنقلاب العسكري الذي نفذه كنعان فرن ما قدمته في عددها ليوم 2/4/ 2012 صحيفة "صاندي زمان" التركية كحصيلة لحكم الجنرال: اعتقال 650000 شخص، ومحاكمة 230000 شخص، و517 حكما بالإعدام، و299 حالة وفاة بسبب التعذيب أو ظروف السجن السيئة.. وبالطبع أن هذا المصير الذي لايحبذه أي مواطن مصري أو عربي كنتيجة لحرب قذرة يقودها جنرالات صغار في الجيش المصري بالرغم أن هؤلاء تجاوزوا كل الخطوط فشهدنا مجازر مروعة (رابعة –رمسيس-النهضة –ابوزعبل) تشبه لحد كبير مذبحة ساحة "تيانانمن" الصينية التي حدثت في يونيو 1989 حين دخل الجيش على الساحة وأرتكب مجزرة راح ضحيتها الآلاف. في رومانيا تأسست "جبهة الخلاص الوطنى" بعد إسقاط النظام الدكتاتوري بثورة عارمة عام 1989 وتم إعدام الدكتاتور شاشيكسو وزوجته، وانبثقت الجبهة من قيادات الخط الثانى فى الحزب الشيوعى الرومانى بمساعدة من جنرالات الجيش، قائد الجبهة هوإيون إيليسكو، العضو السابق بالحزب الشيوعى واحد حلفاء الديكتاتور المعدوم، بدأت سلسة من الاحداث التى وصفت بالارهابية واتهمت فيها القوات الموالية لشاشيكسو؛ بينما في الحقيقة كانت مخابرات الجيش وجبهة الخلاص هم من يقفون ورائها؛ قام إيون وجبهته بالسيطره على التليفزيون والراديو وباقى وسائل الاعلام فى الدولة، واستخدمها فى الدعايه المضاده وتشوية صورة المعارضه الديموقراطيه بعد أن خرجت للعلن بعد خمسين عاماً من الحكم بالحديد والنار وظلت حبيسة العمل في الظل حتى إندلاع الثورة. ومن يرقب الإعلام المصري والشيطنة لغالبية الشعب النازل إلى الشوارع، ومحاولة شيطنة ثورة 25 يناير وكل الربيع العربي، والترحم على النظام القديم وحالة الأمن والإستقرار التي أفتعلها إنفلاته بعد رحيلة عبر جنرالاته وعمقه الممتد خلال ستين عاماً. ويمكن ملاحظة أيضاً الدور المحوري الذي تلعبه "حبهة الإنقاذ الوطني" بقيادة قوى لبرالية ساندتها الجيش ومولها بقايا النظام السابق. عمل إيوان إيليسكو على تسليح عمال المناجم وبدأ تشويه أعضاء الثورة ووصم من قام بها بالإرهاب وأنها تسعى لإفشال الثورة التي أسقطت حكم الدكتاتور. في نفس الوقت كان يسعى لذبح الثورة وتشوييها من خلال أعمال الشغب مستفرداً بعمال المناجم. وفي نداء خص به الشعب عبر التلفزيون دعا ما وصفهم ب"المواطنين الشرفاء" للبدء بحرب ضد الإرهابيين والعملاء الخائنين للوطن والشعب والأمة الرومانية وهؤلاء كانوا في الحقيقة أبناء الشعب الذين أسقطوا الدكتاتور. وبدأ بعملية قمع التظاهرات والإعتصامات التي قامت بها المعارضة الديمقراطية. ولعل التفويض الذي طلبه السيسي وبيان وزير الداخلية بدعوة (المواطنين الشرفاء) قريب جداً لهذه التجربة بإستناد القمع والمذابح لتأييد شعبي. العدد الكلى لمن ماتوا كان 1104 رومانيا منهم 162 قبل تنحية شاشيسكو والباقون فى فترة الانفلات الامنى المدبر على يد جبهة الخلاص الوطنى وجنرلالت الجيش ، اصيب 3352 رومانيا منهم 1107 قبل القبض على الديكتاتور، إذاً نحن أما نفس التجربة فعدد الذين استشهدوا في ثورة يناير 1000 ونيف ، بينما عدد الذين استشهدوا حتى الآن منذ الإنقلاب العسكري في مصر وصل إلى 3000 وجرح آلاف أخرين.. وبعد عام ونصف من الثورة نجحت جبهة الخلاص بالفعل فى اسكات المعارضه الديموقراطيه باستخدام الاعلام الموجه وتم انتخاب إيون إيليسكو رئيسا للبلاد بنسبة 85% من الاصوات، وهى الانتخابات التى وصمت بعدم النزاهه من قبل الاحزاب الديموقراطيه والاعلام الغربى، وأعيد أنتخابه ثلاث مرات حتى عام 2000م. نحن أمام حرب قذرة يقودها الفريق السيسي ضد أبناء وطنه بإشارة خضراء من دول عده لإجهاض الربيع العربي بالكلية؛ليست مصر وحدها فالربيع لايسر الغرب ولا حكومات الخليج الدكتاتورية التي تطفح بكراهية الربيع وكراهية الحرية التي بدأت تنتشر في الدول التي بدأت تنظر نحو الديمقراطية؛ لكن على الفريق السيسي السكران بالسلطة أن يعي جيداً أن مرحلة الثورات الحالية ليست كمراحل الستينيات والسبعينيات؛ وأن عمق الثورات الشعبية أكبر بكثير من عمق أنصاف الثورات التي حدثت في تلك الفترات المتلاحقة. الشعوب عندما تنتفض لكرامتها وخبزها ينظر إلى الموت أنه إحدى الحسنيين . * عدنان هاشم ، صحفي وباحث يمني