في هذا الوطن المصاب بالعقم، لا ينقصنا شيء سوى الحكمة.. الحكمة التي هي ثمرة التجربة مضافاً إليها التأمل.. نحن نجرب نعم، لكننا لا نتأمل.. والمقصود بالتأمل هو استخلاص الدروس والسنن من التجارب التي نخوضها ويخوضها الآخر الذي نتابعه.. أي أن مشكلتنا هي عدم القدرة على التأمل.. وهنا يأتي السؤال الخالد: لماذا؟.. لماذا نحن تحديداً عاجزون عن التأمل؟.. هل فينا عيب بيلوجي خلقي؟ هل تلاحقنا لعنة أبدية كلعنة الفراعنة؟ هل نحن كائنات أدنى من الإنسان؟.. هل كان جدنا الأول ذبابة وجدُّ الأوروبيين والأسيويين فأراً، ثم تطور كل جنس عن أصله؟.. يقولون إن الذباب لا يحول تجربته إلى درس ولذلك فهو يحاول الخروج من نفس المكان المغلق مئات المرات، وقد يسقط في النهاية من الإعياء أو الموت، أما الفأر فهو لا يحاول الخروج من نفس المكان المسدود مرتين..! أنا شخصياً لا أؤمن بنظرية التطور كما قالها داروين، إلا أن سلوكنا نحن العرب عموماً ونحن اليمنيين على وجه الخصوص يدل على أن بيننا وبين الذباب مورثات كثيرة: فنحن والذباب نحب الوقوع على الأوساخ، سواء في التاريخ أو في الدين أو في الثقافة. ونحن والذباب نمارس الطنين كثيراً لكننا ضعفاء جداً، ونسقط أمام أبسط ضربة يوجهها لنا الإنسان أو ذيل البقرة. ونحن والذباب عيوننا واسعة مفتوحة إلى الوراء، لا نرى بها إلا الماضي. ولدينا خاصية أخرى مشتركة وعجيبة قيل أن العلم أكدها عن الذباب، هو أن الذباب إذ سلب شيئاً من الطعام فإنه يضيف عليه إفرازاً يغير تماماً من طبيعته، بحيث يستحيل على الإنسان إعادة تحليله؛ وهذا بالضبط ما نفعله نحن حين نسلب من عالمنا الحديث أشياء كثيرة ذات طابع حضاري، ثم نفرز عليها عصارتنا العربية الخاصة التي تحول من طبيعتها إلى طبيعة أخرى فاسدة: إذا لمسنا الإسلام أصبح ديناً بدوياً، وإذا لمسنا الماركسية، صرنا قبائل ماركسية، وإذا لمسنا الديمقراطية جعلناها صنماً نعبده يوماً ونأكله عندما نجوع، وإذا لمسنا العلم يصبح حزاماً ناسفاً.. إلخ.. إننا نفسد أي شيء بمجرد أن نلمسه..!. لا شك أن للسؤال الخالد (لماذا) جواباً ما يحتاج إلى تأمل.. وأكاد أجزم أن سبب هذه العاهة المستديمة التي لحقت بنا هو إقصاء العقل في حياتنا منذ قرون طويلة.. العقل الذي أصبح عورة من العوارات في منظور الخطاب الديني البائس.. لقد ضمر العقل العربي والعقل المسلم، لأن الفكر الديني أقصاه من التجربة، وزعم أن الدين قادر على القيام بدور العقل، والحلول محله.. صارت الفلسفة زندقة، والتحليل سفسطة، وكل ما له علاقة بالتأمل ترف.. كان للفلسفة وظيفة عظيمة، هي ضمان الاتساق في التفكير، ومن ثم الاتساق في الفعل، وغياب الفلسفة عن حياتنا هو سرّ هذا التناقض الذي تكتظ به حياتنا وخطاباتنا وتفكيرنا.. إذن لنقل إن اللعنة التي حلت بنا هي لعنة غياب الفلسفة، التي أعقبها ضمور الملكات التحليليلة، فما بالك إذا اجتمع هذا الغياب بغياب آخر هو غياب الضمير الحي.. إننا حقاً في الجحيم!. *من صفحة الكاتب على الفيس بوك