احتجاجات غاضبة في حضرموت بسبب الانقطاعات المتواصلة للكهرباء    البكري يبحث مع مدير عام مكافحة المخدرات إقامة فعاليات رياضية وتوعوية    الوصفة السحرية لآلام أسفل الظهر    اليمن يستهدف عمق الكيان    تصنيف الأندية المشاركة بكأس العالم للأندية والعرب في المؤخرة    الأمم المتحدة:نقص الدعم يهدد بإغلاق مئات المنشآت الطبية في اليمن    تعز.. مقتل وإصابة 15 شخصا بتفجير قنبلة يدوية في حفل زفاف    منظومات دفاع الكيان تقصف نفسها!    بايرن ميونخ يحقق أكبر فوز في تاريخ كأس العالم للأندية    علماء عرب ومسلمين اخترعوا اختراعات مفيدة للبشرية    دخول باكستان على الخط يسقط خيار الضربة النووية الإسرائيلية    أرقام صادمة لحمى الضنك في الجنوب    مستشار بوتين.. انفجار النهاية: إسرائيل تهدد بتفجير نووي شامل    للكبار فقط...    الانتقالي ومعايير السيطرة في الجنوب    التوقعات المصيرية للجنوب في ظل الحرب الإسرائيلية الإيرانية    اغلاق السفارة الامريكية في اسرائيل وهجوم جديد على طهران وترامب يؤمل على التوصل لاتفاق مع إيران    خلال تفقده الانضباط الوظيفي في وزارتي النقل والأشغال العامة والنفط والمعادن    القبائل والحكومة والتاريخ في اليمن .. بول دريش جامعة أكسفورد «الأخيرة»    الأمم المتحدة.. الحاضر الغائب!!    وزيرا الخارجية والصحة يلتقيان مبعوث برنامج الأغذية العالمي    مجلس الشيوخ الباكستاني يوافق بالإجماع على دعم إيران في مواجهة العدوان الصهيوني    صحيفة امريكية تنشر تفاصيل عن عملية الموساد في إيران    عراقجي: امريكا واوربا تشجع عدوان اسرائيل والدبلوماسية لن تعود إلا بوقف العدوان    الفريق السامعي: الوطنية الحقة تظهر وقت الشدة    ثابتون وجاهزون لخيارات المواجهة    حصاد الولاء    مناسبة الولاية .. رسالة إيمانية واستراتيجية في مواجهة التحديات    العقيد العزب : صرف إكرامية عيد الأضحى ل400 أسرة شهيد ومفقود    إب.. إصابات وأضرار في إحدى المنازل جراء انفجار أسطوانة للغاز    مرض الفشل الكلوي (8)    من يومياتي في أمريكا .. صديقي الحرازي    تعيين غاتوزو مدرباً للمنتخب الإيطالي    شعب حضرموت يفسخ عقد الزريقي    الحلف والسلطة يخنقون الحضارم بقطع الكهرباء    وزيرا الخارجية والصحة يلتقيان مبعوث برنامج الأغذية العالمي    البكري يرأس اجتماعًا لوكلاء القطاعات العامة ويناقش إعداد خطة ال (100) يوم    هيئة الآثار :التمثالين البرونزيين باقيان في المتحف الوطني    نائب وزير الخدمة المدنية ومحافظ الضالع يتفقدان مستوى الانضباط الوظيفي في الضالع    قوات الجيش تعلن إفشال محاولة تسلل شمال الجوف وتكبّد المليشيا خسائر كبيرة    اسعار الذهب في صنعاء وعدن الأحد 15 يونيو/حزيران 2025    وزير الصحة يترأس اجتماعا موسعا ويقر حزمة إجراءات لاحتواء الوضع الوبائ    انهيار جزئي في منظومة كهرباء حضرموت ساحلا ووادي    أهدر جزائية.. الأهلي يكتفي بنقطة ميامي    اسبانيا تخطف فوزاً من رومانيا في يورو تحت 21 عاماً    اليغري كان ينتظر اتصال من انتر قبل التوقيع مع ميلان    صنعاء.. التربية والتعليم تحدد موعد العام الدراسي الجديد    حضرموت.. خفر السواحل ينقذ 7 أشخاص من الغرق ويواصل البحث عن شاب مفقود    بعد أيام من حادثة مماثلة.. وفاة 4 أشخاص إثر سقوطهم داخل بئر في إب    صنعاء تحيي يوم الولاية بمسيرات كبرى    - عضو مجلس الشورى جحاف يشكو من مناداته بالزبادي بدلا عن اسمه في قاعة الاعراس بصنعاء    سرقة مرحاض الحمام المصنوع من الذهب كلفته 6ملايين دولار    اغتيال الشخصية!    الأستاذ جسار مكاوي المحامي ينظم إلى مركز تراث عدن    قهوة نواة التمر.. فوائد طبية وغذائية غير محدودة    حينما تتثاءب الجغرافيا .. وتضحك القنابل بصوت منخفض!    الترجمة في زمن العولمة: جسر بين الثقافات أم أداة للهيمنة اللغوية؟    فشل المطاوعة في وزارة الأوقاف.. حجاج يتعهدون باللجوء للمحكمة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



(أهل البيت) في علوم الاجتهاد عالة على غيرهم.. فبماذا امتازوا؟!
نشر في الأهالي نت يوم 10 - 05 - 2012

تماشيا مع مزاعم أن أفرادا من الناس يتداولون، على أساس سلالي، وراثة كتاب الله وهداية أمته والقيام بأمرها – بالصورة التي كرَستها «الوثيقة الفكرية والثقافية» لجماعة الحوثي والدائرين في فلكهم - سينتصب السؤال عن ما إذا كان لهذه (السلالة) طرائقها الخاصة في فهم مراد الله من عباده؟ وما إذا كان دين الله متعاليا على الفهم إلا لدى أفراد (سلالة) بعينها، وحدهم الذين مُنِحوا قابلية الفهم، وبموجبها احتكروا مهمة الهداية والتبليغ؟؟!!‏
أجدني مضطرا للتذكير بما انتهت إليه الحلقة السابقة من أن «القول بأن الهداية معقودة ب ‏(سلالة) اسمها (أهل البيت) ليس سوى خرافة».. ولا بأس أيضا بالتذكير بما أوردته - في معرض الاستدلال والمحاجة - من أن الاهتداء إلى من هو أولى بالحق والصواب من (أهل البيت) لا يكون إلا من مُكلَفٍ (عاقلٍ)، إذ أن (أهل البيت) ليسوا فريقا واحدا، فقد توزَعوا على مختلف الفرق والمذاهب، وشأنهم شأن أصحاب هذه المذاهب الذين ما منهم إلا ويعتقد أنه الصحيح فيما الآخر ليس بشيء، ومن هنا فإن (أهل البيت) يُنكِر بعضهم بعضا، ويُسَفِه بعضُهم منهجَ بعض، الأمر الذي يقطع بأن وجود (أهل البيت) في هذا المذهب أو ذاك لا يُوجِب، بحد ذاته، رجحانا لأحدهما على الآخر، وإنما الترجيح مهمة ينهض بها المُكَلَف ‏(العاقل) في ضوء ما أسعفته به ملكاته واهتدى إليه اجتهاده، وعلى هذا الأساس فإن العبرة - في كون هذه الفرقة أقرب إلى الصواب من غيرها – لا علاقة لها بتواجد (أهل البيت) فيها على الإطلاق، وإنما العبرة هي بمدى اقتراب هذه الفرقة في نظر المكلف (العاقل) من روح الإسلام ومبادئه الكلية.‏
‏«المساواة» وأصنام قريش!‏
يمكن أن يُقال الكثير في سياق الاستدلال على «أن القول بأن الهداية معقودة بسلالة (أهل البيت)» ليس سوى خرافة.. ومن ذلك أن مَعرِفَة كون هذا الفريق من (أهل البيت) أَصوَب من الفريق الآخر مسألةٌ لا تكون إلا من طَرَفٍ مُفَارِق، أي أنه ليس أحد الأطراف التي يريد الترجيح بينها، وطالما والترجيح بين الأطراف المتباينة من (أهل البيت) يتطلَبُ أحداً من خارجها، فهذا يعني أنه الحاكم عليها وليست الحاكمة عليه (بالنسبة لنفسه على الأقل)..
وهذا الاستدلال في الواقع يحيل إلى آخر هو الأساس في هذا كله، وهو أن الترجيح بين الأطراف المتباينة من (أهل البيت) وتمييز أيُها الأولى والأصوَب لا يكون إلا بعرض مناهجها على مقاصد الإسلام ومرجعياته وثوابته الكلية، والمؤكد أن هكذا مهمة لا تكون إلا من مُؤهَلٍ للاقتراب من روح الإسلام وإدراك مقاصده والصدور عن مرجعياته، ومن غير طريق (أهل البيت) بالطبع.. وبعبارة أخرى: أن المُكَلَف (العاقل) لكي يختار واحدا من مذاهب وفرق (أهل البيت) لا بد أن يكون في مستوى من الإدراك لثوابت الدين ومنطلقاته يستطيع معه تمييز أن هذا الفريق من (أهل البيت) هو الأقرب لروح الإسلام، وهذا يقطع بأن المكلف (العاقل) يستطيع الصدور عن الإسلام والاقتراب من مقاصده من غير طريق (أهل البيت)، بما يعني انتفاء الحاجة إليهم، وأنه لا لزوم لاتباع أي فريق منهم.‏
وكما هو معلوم من أصحاب «الوثيقة الفكرية والثقافية» ومن يرى رأيهم فإنهم إنما يربطون بين ما يجعلونه من مقام ديني ل (أهل البيت) وما يزعمونه من اختصاصهم ب «وراثة الكتاب وهداية الأمة!!».. ومادامت الأدلة – العقلية والنقلية - قد قامت على أن «وراثة الكتاب وهداية الأمة» ليست من اختصاص سلالة أو فرقة أو مذهب أو جماعة بعينها، فإن تهافت دعوى مقام (أهل البيت) الديني - وسواهم – من الوضوح بمكان، إلا لدى مَن في نفسه شيء مِن مبدأ (المساواة) التي مرَغ بها الإسلامُ أصنامَ قريش في الوحل!!‏
إن طريق استمداد الهداية لا تُعَرِج بالضرورة على محطة "أهل البيت"، فهم – كما غيرهم – يقاسون في مدى صوابيتهم من عدمها إلى مدى اقترابهم من روح الإسلام ومقاصده التي لا علاقة ب "النسب" بإدراكها، بقدر ما الفيصل فيها لمؤهلات وملكات ليست حكرا على أحد).. وطالما والأمر بهذه الصورة فإن توصيف مقولة «إن الهداية معقودة بأهل البيت» ب ‏(الخرافة) أمرٌ طبيعي. بل إنها تستحق من التوصيف ما هو أبعد من الخرافة بكثير.‏
توضيح.. وتذكير بالأصل‏
وعلى أمل ألَا أكون قد أفرطت في التكرار – دونما مسوغ - يلزمني هنا توضيح مسألة تتعلق بما ذهبت إليه من أن مقولة «إن الهداية معقودة بأهل البيت» ليست سوى خرافة. إذ حَمَلَت إليَ ردود الأفعال التي قوبلت بها الحلقة الماضية -«خرافة اسمها أهل البيت»- عتاباً من بعض من أعرفهم، ومن لا أعرفهم، بخصوص ما ظنوا أنه إنكارٌ مني ل (أهل البيت) ك ‏(نسب).‏
وحتى لا أدع مجالا للالتباس أُشَددُ هنا على أنني في ذهابي إلى القول ب (خرافة) مقولة «إن الهداية معقودة بأهل البيت» لم أعتمد على ما إذا كان ل (أهل البيت) كنَسَبٍ وجودٌ حقيقي أم لا، وإنما اعتمدتُ على استدلالات تتعلق بإثبات أن (أهل البيت) شأنهم شأن غيرهم من الناس، وأن امتيازهم بما يجعلهم يزعمون أنهم «ورثة الكتاب، والأمناء على السنة، وهداة الأمة..» لهو خرافة ووهم. أما مسألة (النسب) - إثباتاً أو نفياً - فإنه أمرٌ لا يعنيني في شيء، وعلى هذا الأساس فَليَعُد نَسَبُ هذا أو ذاك إلى الحسن والحسين "رض" أو إلى غيرهما من أبناء علي بن أبي طالب "رض" أو إلى أيٍ إنسان كان، فالقاعدة أن "النسب" في حد ذاته لا يُوجب لحامله أيَ فضل، ومن زعم لنفسه (ميزة) عليك، لأنه يختلف عنك من حيث انتسابه – على سبيل المثال - إلى علي بن أبي طالب "رض"، فَحَسبك تأكيداً على ما بينكما من (مساواة) أن تُلفِت نظره إلى اتفاقك وإياه، مع البشر أجمعين، في الانتساب إلى رجل واحد وامرأة واحدة، ولا بأس أن تلقنه اسميهما؛ فلعل ما هو فيه من وَهم (الاصطفاء) قد أنساه آدمَ "ع" المخلوق من طين، وزوجته حواء "ع" كذلك.‏
‏«أهل البيت».. مُميَزون وعالة!‏
يسود شعور في أوساط الذين تنطلي عليهم مقولة «إن أهل البيت هم ورثة الكتاب وهداة الأمة» يتمثل في الاعتقاد بأن ل (أهل البيت) في اكتساب المعرفة الدينية – بل وغيرها - طريقة خاصة تختلف عن المعهود لدى الناس، وأنهم يتناقلون في سلالتهم علماً خاصاً يرثه الخلف عن السلف، ويهبه السابق للاحق. وهذا الشعور الذي لم يعدم من يُروج له - تاريخيا وحتى اللحظة – يقوم على وَهم أن العلم يتعاقب في (أهل البيت) عبر سلسلة (ذهبية!!) خالصة لا يخالطها غثاء، فيها يأخذ المتأخر عن المتقدم عن أبيه عن جده، وصولا إلى الإمام علي بن أبي طالب "رض"، فرسول الله "ص"، ف (الله) سبحانه وتعالى!!.. فهل صحيح أن (أهل البيت) في استمداد المعرفة الدينية لهم مناهجهم ووسائلهم الخاصة التي تغنيهم عن اتخاذ مناهج ووسائل غيرهم؟
‏إن طرح مثل هذا السؤال لم يكن ليتم، أساساً، لولا أن جماعة من الناس ظهروا علينا ب ‏«وثيقة» زعموا فيها أن (أهل البيت) هم المرجع في كل شيء، بينما يستحيل عليهم الرجوع إلى أحد في شيء!!.. أما وقد بلغت «الوثيقة الفكرية والثقافية» من المزاعم حداً صادرت معه البديهيات واليقينيات؛ فإنه لا مندوحة عن الإجابة، التي يقتضي السياق الطبيعي تلخيصها في نكران مشروعية السؤال من الأساس؛ كون اتكاء (أهل البيت) في استمداد المعرفة الدينية – فضلاً عن سواها – على مناهج ووسائل غيرهم في حكم القطعي، الذي تواترت به مجريات التاريخ وشواهد الواقع، ولم يعد من شك في اعتباره حقيقة تاريخية وواقعية.‏
أما والسياق الذي استلزمه السؤال ليس بالطبيعي فلا سبيل إلى الاكتفاء في معرض الرد عليه بما سبق. وهنا من المفيد التذكير بما قرره ابن خلدون عن القرون التي سبقته – كما أوردنا عنه في الحلقة السابقة – من أن أكثر حملة العلم في الإسلام هم العجم، سواء في صناعة النحو – خاصا بالذكر سيبويه والفارسي والزجاج - أو غيره: كعلم الحديث وأصول الفقه وعلم الكلام والتفسير.[1] وأهمية هذه العلوم خاصة تأتي من كون الإلمام بها وإتقانها – أو بالأصح أكثرها – مطية اشتغال المجتهد لفهم النص الديني واستنباط الأحكام منه، فقد تعارفوا على تسمية البعض منها ب (علوم الآلة) التي لا يَسَع من رامَ قرباً من مصادر التشريع إلا أن يتوسلها، إذ يتوقف - على سبيل المثال – على علوم العربية من نحو وصرف ومعان وبيان الإمساك بناصية اللغة، ومن لم يكن على شيء في هذا العلم فإن طريقه إلى فهم القرآن والسنة ليست سالكة على الإطلاق، «لأن القرآن والسنة بلسان عربي، فلا يمكن الاستنباط منهما إلا بفهم الكلام العربي إفراداً وتركيبا..».[2]‏
ومثله يقال عن علم الحديث وما يلحق به من (الجرح والتعديل) كون من يأخذ في هذا العلم بنصيب وافر أدعى – على سبيل المثال - لتمييز صحيح السنة من ضعيفها. وهكذا بالنسبة ل (أصول الفقه) وما في حكمه من علوم لا غنى عنها للمجتهد، مهما كان مستوى الاجتهاد الذي يتحرك فيه. وفي هذا «يقول الفخر الرازي: "إن أهم العلوم للمجتهد علم أصول الفقه"، وقال الغزالي: "إن أعظم علوم الاجتهاد يشتمل على ثلاثة فنون: الحديث واللغة وأصول الفقه"... وقال الإمام محمد بن إبراهيم الوزير في (أصول الفقه): "هو رأسها وعمودها، بل أصلها وأساسها..».[3]‏
‏تلك إذاً مناهج وآليات في اكتساب المعرفة لم يكن ل (أهل البيت)، في أكثرها، شأنٌ يُذكر، بقدر ما هم فيها عالة على غيرهم، إذ هل يستطيع أحدٌ «من أدعياء أن "أهل البيت" هم المرجع في كل شيء» إنكار تَخَلُفِهم عن السبق إلى علوم الحديث والجرح والتعديل وأصول الفقه - فضلا عن علوم العربية المختلفة – وترك بصمات واضحة فيها؟
اعتساف.. واستنكاف لاحق
يُدرك أصحاب «الوثيقة» أن ذهابهم إلى القول بأن «أهل البيت هم ورثة الكتاب وهداة الأمة والأمناء على السنة» يصطدم بحقيقة قاطعة هي أن (أهل البيت) هؤلاء - في العلوم اللازمة ليكونوا هداة للأمة - ليسوا سوى تابعين لا متبوعين، وأن الفضل في تَخلِيقِهَا ومَنهَجَتِهَا علوماً قائمة بذاتها يعود إلى علماء وفقهاء ومُحدِثين ولغويين ليسوا فقط من غير ‏(أهل البيت) وإنما أصول الكثير منهم غير عربية. وهذا يُفَسِرُ ما يمكن تسميته ب (الاستنكاف المتأخر) لدى أصحاب الوثيقة عن ما كان أئمة وعلماء الزيدية - بمن فيهم أهل البيت - قد درجوا عليه منذ قرون طويلة من الأخذ بمناهج غيرهم، دونما غضاضة، لاسيما في العلوم التي سبقت الإشارة إليها، ولم يُعرف عن الزيدية أنهم رُوَادها، بقدر ما هم تابعون فيها.‏
وعلى سبيل المثال فإن برنارد هيكل يُعيد استناد علماء (الزيدية) على مصادر (أهل السنة) في (الحديث) إلى القرن السادس الهجري «منذ عهد المتوكل على الله أحمد بن سليمان. وكان المنصور عبدالله بن حمزة من هؤلاء الذين رجعوا إلى مصادر أهل السنة، وكذلك الناصر صلاح الدين محمد بن علي، والهادي عزالدين بن الحسن، والمتوكل يحيى شرف الدين، والمنصور القاسم بن محمد، والمؤيد محمد بن القاسم..».[4]‏
وفي دراسة له، عن محمد بن إبراهيم الوزير، والحسن بن أحمد الجلال، وصالح بن مهدي المقبلي، ومحمد بن إسماعيل الأمير، ومحمد بن علي الشوكاني، يقول برنارد هيكل: إن ‏«الظاهرة التي جمعت بين هؤلاء العلماء المصلحين هي مفهومهم المشترك للسنة في أنها تعتمد كليا على كتب الأمهات الست، أي صحيحي البخاري ومسلم وسنن الترمذي والنسائي وأبي داوود وابن ماجه، وهذا ما أدى إلى وجود منهج فقهي يعتمد على السنة في الأساس، ويدحض كثيرا من الآراء الفقهية في المذهب الهادوي».[5]‏
‏لم يكن أمام الذين صادقوا على «الوثيقة الفكرية والثقافية» وأعلنوا أنها «رؤيتهم وعقيدتهم» إلا التَخَلص – اعتسافاً - من العُقدة الحقيقية المتمثلة في لزوم اتكاء أهل البيت – طلباً للمعرفة الدينية – على مناهج غيرهم، وليس العكس. وهكذا يمكن فهم لماذا كل هذا الإصرار الذي أبداه أصحاب «الوثيقة» بخصوص رفض أصول الفقه ومناهج التعاطي مع السنة، ولماذا ذلك النوع من التضييق على الاجتهاد، الذي كان فتحه ميزة يفاخر بها الزيدية على مر العصور.‏
إن أصول الفقه ومناهج التعاطي مع السنة، وسواها من العلوم والمنهجيات التي يُعطي التمكُن منها والإمساك بها للاجتهاد والتجديد فاعليته القصوى، أمورٌ يعني حضورها في المرجعيات المعرفية (الدينية) إنكار مقولة أن أفراد (سلالة) بعينها هم ورثة الكتاب وهداة الأمة، ولهذا لم يقبل الذين يرون أن حضور هذه العلوم والمنهجيات يأتي على حسابهم إلا بنفيها وإلغائها، لأنها بنظرهم تتيح لأيٍ كان منافستهم في الزعامة الدينية وسحب البساط من تحت أقدامهم، كما أنها تُذَكِرهم بمدى التناقض الذي يقعون فيه حين يزعمون أنهم «ورثة الكتاب وأمناء السنة وهداة الأمة» في حين أنهم لبلوغ درجة من الاجتهاد تُخَوِلهم استنباط الأحكام من الكتاب والسنة لا بد وأن يكونوا عالة على تلك العلوم والمنهجيات التي كان الفضل فيها لغيرهم.‏
مداراة العجز والخواء
لقد احتالت «الوثيقة» على عَجز (أهل البيت) عن الريادة - في العلوم التي لا غنى للمجتهد عنها - بإنكار تلك العلوم أو التقليل من أهميتها.. (على طريقة من يَذم شيئاً بعد أن عَجِز عن إدراكه وتحقيق السبق فيه)[6].. وهكذا اصطدم أصحاب «الوثيقة» بالمناهج المعتبرة للتعاطي مع السنة - التي لا ناقة لهم فيها ولا جمل - فلم يكن أمامهم، لكي يستروا عجزهم ويُدَاروا خواءهم، إلا تجاهل الطرق العلمية والمنهجية، وادعاء أن السنة «مرتبطة بالهداة من آل محمد كأمناء عليها في اعتماد الصحيح من غيره»!! أما على أي أساس ترتبط السنة ‏«بالهداة من آل محمد» وما هو المنهج الذي أرسوه ل «اعتماد الصحيح من غيره»؟! فهذا ما لا يملك أصحاب «الوثيقة» إجابة شافية عنه، اللهم إلا استعدادهم لرمي مَن أنكر ما ذهبوا إليه بأنه (ناصبي) يكره (أهل البيت)!!‏
وعلى ذات الشاكلة دفع أصحاب «الوثيقة» علم أصول الفقه، بل إنهم لم يخفوا أن رفضهم له إنما هو بسبب كونه ينهض بديلاً عنهم، ويتيح لمن يتخذه منهجاً الاستغناء عن من يعتبرونهم الهداة من (أهل البيت) المتقدمين منهم والمتأخرين، إذ نصت «الوثيقة» بخصوص أصول الفقه على أن «ما كان منه مخالفاً للقرآن الكريم أو بدلاً عن آل محمد فهو مرفوض ومنتقد من الجميع».‏
ومع أن أصحاب «الوثيقة» استثنوا ما كان من أصول الفقه «موافقا للقرآن ويُستعان به على فهم النصوص الشرعية» وقالوا بأنه «مقبول مُعتَمَد» إلا أنهم اشترطوا أن يكون هذا الجزء المُعتَمَد المقبول «في إطار آل محمد».. بمعنى أن أصول الفقه في الجملة – حسب هذا الطرح - خاضعة لإجازة (أهل البيت)، ولكونهم «ورثة الكتاب» فإن ما كان من أصول الفقه بدلاً عن (أهل البيت) فإنه يعني أيضاً أنه بَدَل عن القرآن، لأن (أهل البيت) قرناء الكتاب، وبالتالي فهما سيان، وأية مخالفة لأحدهما مخالفة لكليهما!! أي أن (أصول الفقه) يخضع لمزاج أفراد (سلالة) معينة، متى ما أحسَوا أنه بديل عنهم فلن يترددوا عن ذمه والنهي عنه، دونما إبداء أي تعليل، إلا من قبيل أنه مخالف لكتاب الله بمخالفته الورثة!!‏
الاجتهاد: استخفاف بالإنسان!‏
لقد كان من الطبيعي بعد هذا كله أن تنتهي «الوثيقة الفكرية والثقافية» للحوثيين، ومن لحق بهم، إلى اتخاذ موقف من الاجتهاد غاية في السلبية، لم يسبق لأحدٍ من علماء (الزيدية) المعتبرين اتِخاذه، سواء المتقدمين منهم أو المتأخرين. وقد يقول قائل إن «الوثيقة» لم تلغ الاجتهاد وإنما حددت له شروطاً وضوابط، وهو قول فيه تلبيس وزيف وخداع، إذ أن ربط الاجتهاد ب (أهل البيت)، واشتراط عدم تأديته إلى مخالفتهم (بل وإلغاء مقدماته وركائز منطلقاته من العلوم والمناهج التي لا غنى لأي مجتهد عنها كأصول الفقه وعلم الحديث..) لهو مما يقطع بأن أصحاب «الوثيقة» يَتَبَنون موقفاً رافضاً للاجتهاد، من خلال تقييده بموافقة ‏(سلالة) معينة، وضرورة أن يدور في فلكهم، ولا يخرج عنهم.‏
‏من بين خمسة شروط أوردتها «الوثيقة»، حتى يكون الاجتهاد مقبولا ومطلوبا، خَصَصت ثلاثة منها للتأكيد على ضرورة موافقة (أهل البيت)!! وهي نسبة تكشف كم أن أصحاب الوثيقة ليس لهم من هاجس إلا تكريس أنهم مميزون عن غيرهم من البشر، وأن لهم من ‏(النسب) ما يجيز لهم إعلان فرادتهم، والتبجح بأنهم «قرناء الكتاب وورثته، والأمناء على السنة، وهداة الأمة وولاتها، وحجج الله في أرضه، ومنارة لعباده، وأن الله أمر بطاعتهم»!! أي باختصار: أنهم ظل الله في أرضه، والواسطة بينه وبين عباده!!‏
‏اشترطت «الوثيقة» في الاجتهاد ألَا «يؤدي إلى التفرق في الدين والاختلاف في معرفة الله وغيره من أصول الشريعة». هذا أولاً، أما ثانيا فألَا يؤدي «إلى مخالفة نهج الآل الأكرمين». وثالثاً ألَا يؤدي «إلى الإضرار بوحدة المسلمين وتكوين الأمة التي أمر بها رب العالمين». ورابعاً ألَا يؤدي إلى «مخالفة من أمر الله بطاعتهم وجعلهم ولاة للأمة»: أي (أهل البيت) كما هم في عُرف أصحاب «الوثيقة». وخامساً أن يحتكم ل «الضوابط التي وضعها ومشى عليها أئمة الآل»؛ إذ ما لم يكن الاجتهاد ملتزماً بتلك الشروط «فهو اجتهاد مرفوض لا نقره ولا نرضاه – والكلام لأصحاب الوثيقة - بل هو مفسدة في الدين».‏
إن هذا العرض يكفي لتوضيح أن أصحاب «الوثيقة» يختصرون كل شيء في أنفسهم، وأن لسان حالهم والمقال يتحدث عن أفراد (سلالة) هم وحدهم المعنيون بالنظر والتفكير والاجتهاد، فيما على بقية البشر مجرد التسليم بطاعتهم، والانقياد الأعمى لهم، فهل بعد هذا من استخفاف بالإنسان وعقله، وما أودع الله فيه من ملكات التفكير الحر والإبداع الذاتي؟!‏
الهوامش والمراجع
‏(1)‏ عبدالرحمن بن خلدون، المقدمة، دار الرائد العربي، بيروت، 1982، ط 5، ص 543 ‏- 544.‏
‏(2) الوافي المهدي، الاجتهاد في الشريعة الإسلامية (نشأته وتطوره والتعريف به)، دار الثقافة، الدار البيضاء (المغرب)، ط1، 1984، ص 430.‏
‏(3)‏ نفس المرجع، ص 429.‏
‏(4)‏ برنارد هيكل، العلماء المصلحون في اليمن، الإكليل (مجلة فصلية تعنى بتاريخ اليمن الفكري والثقافي، وزارة الثقافة، صنعاء) العددان (31 - 32) يناير - يونيو ‏2008، ص 9 - 10.‏
‏(5)‏ نفس المرجع، ص 9.‏
‏(6)‏ هناك مثل شعبي مفاده أن (الثعلب) إذا أعيته الحيلة عن إدراك (العنب) لا يتردد في وصفه بالرديء، وعدم صلاحيته للاستهلاك، أو شيء من هذا القبيل!!‏
* نقلا عن صحيفة الناس الأسبوعية
للاطلاع على الحلقات السابقة من القراءة يمكنك الضغط هنا


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.