هو المنهج الحيوي في الإسلام. بروفيسور: رجاء جارودي رحمه الله. من الإشكاليات في ثقافتنا: أن المجتمع المسلم ثقافته فقهية، وهي إشكالية متوارثة موغلة في القدم؛ لأن المجتمع العربي عاش قبل الإسلام حالة ما قبل الدولة وجاء الإسلام فعملت التربية النبوية على إيجاد شبكة من الشروط التصورية، وأغنتها بالمفاهيم والتطبيقات، وتعددت هذه الشبكة المتنوعة من الشروط ولعل من أهمها: الانتقال من الشرك إلى التوحيد، ومن التجزؤ إلى الوحدة، ومن القبيلة إلى العشيرة إلى الأمة والدولة، ومن الجهل والظن والهوى إلى المنهج والحقائق العلمية، من الإفساد والتخريب إلى الإصلاح والإعمار، ومن الأنانية والذاتية إلى المصلحة العامة، من التفلت والتسيب وعدم الانضباط وكراهية النظام لدى الرجل البدوي الجاهلي، إلى الرجل المسلم الجديد الملتزم بقيم الإسلام المتجذرة في أعماقه السليمة بعيدا عن الخرافة.. باختصار من الفردية إلى المؤسسية بكل ما تحمله كلمة مؤسسية من معنى، مع مراعاة ظروف الواقع يومها. هذه الشبكة من الشروط كانت كفيلة بقيام حضارة بديلة قدمت كل ما فيه من مصالح حيوية للإنسان وطردت كل المفاسد. غير أن هذه الشبكة لم تدم، وبالذات في المسار السياسي، فلقد حصل معها قطيعة مبكرة وذلك بعد ذهاب العهد الراشدي، وبدأ الاتجاه السياسي يسير في الاتجاه المغاير لهذه الشروط الحضارية، حيث برزت العصبية والفردية فوجدت الأمة نفسها أمام واقع موّار بالمشاكل داخل البيت الواحد. بل قل إن شئت حرب أهلية، أو حرب الأخوة الأعداء، فضاعت شبكة الشروط الآنفة على المستوى السياسي، وظلت تأخذ مسارها في الجانب الاجتماعي فأنجزت حضارة لا يُستهان بها خدمت العالم قرونا طويلة، ولا شك أن الجانب السياسي أسهم في إقامة هذه الحضارة في بعض الجوانب طالما وهي خارج النسق السياسي الأسري الوراثي. خلال الفترة الآنفة الذكر –ما بعد العهد الراشدي وحتى منتصف القرن الثالث تقريبا- لم تكن علوم التخصص قد برزت كما هو الحال في عصرنا، فقد كان السياسي والفلسفي والاجتماعي والفكري والثقافي وغيره مختلط بالديني، وهذا التمازج كان له الأثر السلبي، ليس في ذلك التاريخ، وإنما على واقعنا المعيش كما سيتضح لاحقا. فعلى سبيل المثال: عندما كثرت الانقلابات العسكرية والسياسية على الحكام وعاشت الأمة فلتانا أمنيا واضطرابا اقتصاديا، وكثر القتل بين الانقلابيين ضد الظلم حسب دعواهم وبين الحكام في مثل هذا الواقع المليء بالمحن المختلفة، ولا شك أن السياسة كانت هي أساس كل المحن وهي المتصدرة للأحداث كما أنها السبب الأول، ولأن المُلك عقيم كما يقال فقد كانت دماء خصوم السياسة رخيصة، ويتبع هذه الدماء لفيف من الصراعات الفكرية والمذهبية والشعوبية والطائفية.. وإذن: فالملجأ هنا هو الفقيه! تلجأ إليه الأمة خوفا على دينها ودنياها فكانت تأتي فتوى الفقيه حينها بمثابة «فقه طوارئ» - إجابة ظرفية، واستمرت هذه الثقافة الفقهية ملاذا حتى دخلت الأمة القرن الرابع، فانهمكت الأمة على تدوين ما سبق وتوقف العمل عند التدوين، وترك التفكير، ولا شك أن القرار السياسي أسهم كثيرا بطريقة أو أخرى، والذي تمثل في الصراع الطائفي حيث أصبح السياسي يحمل طابعا عقديا، إنها كارثة ثقافية بكل المقاييس، ذلك أن صراع أبناء العم على الكرسي تحول عقيدة، وليس هذا فحسب؛ بل إن هذا الجنون أصبح يسير تحت عين السياسة، ومع هذا فلو أن الأمر اقتصر على ذلك التاريخ لكان أهون، لكن الإشكالية امتدت إلى اليوم فنجد من يأتي في أوساطنا ليحل مشاكلنا ناظرا إليها بعيون الموتى، وأي موتى؟ إنهم موتى القرون الغابرة! وهذا هو المراد بقولنا: ثقافتنا فقهية، فإذا كان أولئك الأسلاف دعتهم ظروفهم إلى الانضواء بجوار الفقيه والمحدث، والسبب معروف -اختلاط السياسي بالديني- فإننا اليوم نجد الفارق كبيرا ثقافيا وسياسيا وفقهيا.. الخ. إن المصالح الدنيوية المحضة أصبحت واضحة لا تخفى على عاقل، يدركها العقل حد قول سلطان العلماء العز بن عبدالسلام. وإذن: فإن الفقه الذي تريده اليوم هو الفقه الحيوي، فقه المصالح، فقه إيجاد المصالح وتكميلها، ومنع المفاسد أو تخفيفها حد قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. وإذا كنا نريد ثقافة الإقلاع الحضاري، فهذا هو الفقه المطلوب في ظل أحكام الشريعة الإسلامية، وإذا أردنا تجديدا للفقيه -فقيها مجتهدا- ليُسهم في ثقافة الإقلاع الحضاري، فإن فقه المصالح هو الطريق الأمثل. وأعني بفقه المصالح هو أن: على الخطاب الديني أن يُغير من خطابه الوعظي البحت إلى خطاب حقوقي إنساني ممتزج بالوعظ... ليتذكر حملة لواء الخطاب الديني أن الله قال (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به..)، هكذا ربط الله الوعظ بأمر سياسي بحت؛ لأن الاستبداد السياسي طالما ألقى بظلاله على بقية جوانب الحياة فحولها إلى حطام كما حول الأمة إلى قطيع من الأنعام. إن بيضة الإسلام التي أصبحت مصطلحا أشبه بالعنقاء، موجودا في الخيال لا في الواقع. هذه البيضة بحثنا عنها وبعد عناء وجدناها تعني أن الخليفة السليل المسلول بآلاف العلل الفكرية و.. و.. و.. والمسلول سيفا مصلتا على رقاب الأمة. هذه البيضة اليوم إن صح لنا أن نتكلم عنها وعن حمايتها أنها بيضة الأمة، إنها حق الأمة في القرار والاختيار، إنها بيضة المشاركة في وجه الفردية الكالحة البالغة في السوء والسواد. إن بيضة الإسلام هي مصالح الأمة التي يجب استعادتها من أيدي مغتصبي حق الأمة في حريتها ومصادرة ثرواتها وتقاسمها مع أسيادهم في الشرق أو الغرب -وتحويل الأمة إلى عالة منتظرة ما يجود بها صندوق القبر الدولي أو منظمة الاستلاب الثقافي. فتاوى الانبطاح إن فقه المصالح يعني الوقوف أمام هذا التساؤل بمسؤولية ثم الإجابة عن أنه تساؤل: من يصنع واقعنا؟ لاشك أن الإجابة الواعية ستجعلنا نعيد النظر في أمور كثيرة منها: هل في عصر نشوء الأقوال الفقهية التي قسمت المجتمعات إلى دار كفر ودار إسلام، ودار حرب، ودار عهد، هل لهذا التقسيم وجود في واقعنا اليوم؟ فأين هي دار الحرب، أهي أمريكا أو الغرب الأوروبي؟ فإذا قلنا نعم. فالجواب: ما حكم مئات الآلاف من المهاجرين والناجين بأرواحهم من ديار الإسلام؟ فكيف انقلب الأمر؟ وسؤال آخر: الدول النفطية، ملكية عميلة أو وطنية مستقلة، هل استطاعت واحدة منهما أن تصنع لنا مصفاة نفط؟ دعونا من صنع طيران وبوارج وغواصات. سؤال أقل من هذا: من هي الدولة النفطية التي زاحمت الهند الجائعة بصناعة شرائح الحاسوب لتغزوا بها أسواق العالم؟ سؤال آخر بعيدا عن التصنيع، ولكن داعم للبنية التحتية على مستوى الاقتصاد الفردي، هل فكر الفقيه بأهمية التأمين وآثاره ونتائجه وثماره؟ هل قام بدراسات بحثية شاملة على أرض الواقع ثم ربط دراسته هذه بفقه المصالح الراجح والمفاسد الراجحة، ربطا علميا موثقا موضوعيا بعيدا عن العواطف، والنظر بعيون الموتى، واعتماد البحث العلمي المنهجي وليس الاعتماد على كلمة (زعموا)؟ لقد ارتبط كثير من الفقهاء المعاصرين بفقهاء السعودية فقالوا بالتحريم، وكانت المفاجأة أن أميرا سعوديا أنشأ شركة تأمين: فلم يجد أولئك الفقهاء سوى القول: يجوز لولي الأمر إقامة الشركة وليس لغيره؟! إنها فتوى منبطحة سياسيا، وهنا وقع فقهاء التقليد في ورطة ثقافية سياسية فقهية؟ أقول للفقهاء اتقوا الله فيما تحملوا من نعمة العقل فلا تهدروها، فالله سائلكم عنها لقد شاء لي القدر أن أعرض رسالة دكتوراة على أحد المشائخ وإنها نوقشت في جامعة سلفية، وفيها بعض نقاط منهجية مقاصدية – مما رسمها سلفنا الصالح – فقال بالحرف: هل الشيخ بن باز وابن عثيمين أطلعا على هذا الكتاب؟ مع علمي الجازم أن مكتبة هذا الشيخ فيها أمهات كتب المذاهب يعلوها أكداس الغبار ووليم الذباب!!. لقد شبعنا ولا زلنا إلى حد الغثاء حول الربا في البنوك التقليدية – ثم جاءت البنوك الإسلامية ومع تسليمنا إن وجودها بحد ذاته يُعد خطوة أولى ولكن هل الفقهاء في هيئة الرقابة الشرعية وضعوا قواعد منهجية مرتكزها المصالح الراجحة والمفاسد الراجحة؟ أم إن فقههم هو ذلك الفقه الذي يُضحك الثكالى – فكرة بيع الآمر بالشراء الذي خلق ميتا ؟ أم إن القياس على فقه التأمين الذي صنعته بعض العقول التي لم تشم رائحة فقه المصالح والمفاسد، وإنما فقه قام على تصور عجيب وغريب وفريد، فقه جعل مسألة التأمين قياسا على أن المسافرين من الصحابة كانوا يجمعون كسر الخبز ثم يفتتونها ثم يأكلون ولا شك أن بعضهم قدم أقل من رفيقه ومن هنا جاز له أن يأكل أكثر مما قدم من فتاة الخبز؟ هل هذه العقلية ستنهض بالأمة لتخوض بها القرن الواحد والعشرين؟ تساؤل آخر. من المعلوم أننا شعب مسلم نريد أن نحتكم إلى خصوصيتنا الثقافية والعقدية، شاءت مواثيق الأممالمتحدة أم أبت، وغير هذا فهو مصادرة للحريات وحقوق الشعوب في اختبار قوانينها...مع علمنا بأن الإعلانات الدولية والمواثيق الأممية تنص في مقدماتها: على احترام خصوصيات الشعوب: غير أن السؤال العاقل والهادئ الموضوعي نوجهه إلى ذوي الحناجر السميكة قائلين: بلغ عدد القوانين في اليمن قرابة (50) قانونا فكم هي القوانين ذات الصلة بالشريعة الإسلامية غير قانون الأحوال الشخصية والقانون المدني والقانون التجاري؟ علما بأن القانون المدني والتجاري وضع التشريع الإسلامي لهما ضابطا هو العدل فقط والبقية كلها من العقل والخبرات والتجارب الناجحة، والسؤال: هل في الشريعة الإسلامية قانون نيابات، وقانون انتخابات وقانون بحري، وقانون عمل وقانون تعليم وصحة، وجامعات وأراضي وعقارات الدولة والشركات والمرور ومنظمات المجتمع المدني و..و..والخ، هل هذه كلها موجودة في الشريعة الإسلامية؟ فإذا لم نوجد فيه فقد نسبتم النقص إلى ما أدّعيتم كماله وإن وجدت نتحدى أن تقدموا قانونا واحدا ؟ لا شك أن العاقل الموضوعي سيقول هذه القوانين قائمة على المصلحة نقول: وإلى هذا طالما دعوناكم ولا زلنا، وإذن: فالمطلوب مراجعة أنفسكم فهذه القوانين مقتبسة من التجارب والخبرات البشرية الناجحة النافعة، فاتركوا الغلو وأعلموا أن المصالح الدنيوية معلومة بالعقل، ويدخل في هذه المصالح تنصيب الحكام واختيار الأنظمة – جمهورية ملكية، مدنية، فدرالية، دولة مؤسسات، فصل بين السلطات، استقلالية القضاء، كل هذه معقولة المصالح...هذا هو منهج الحيوية الإسلامية. ومن غرائب التطفل الفقهي في الجانب السياسي أن يظهر أحدهم بتأصيل فقهي لتأبيد الحاكم، بقوله «ليس من تصرف الصحابة مع الخلفاء الراشدين». في نظره هو فقه ناقص لم يطلع عليه الرسول صلى الله علية سلم وإنما جاء بفقه سياسي وضعه الرسول حسب قوله وهو أن الرسول قال إمارة زيد بن حارثة في مؤتة فإن مات فجعفر بن أبي طالب، فإن مات... ويا ليت هذا التأصيل خاص بالتأبيد بل ولاية العهد أيضا؟ هذا المتفقه كثيرا ما يقمع أي متفقه مجتهد بقوله: لم يقل هذا أحد من العلماء؟ ونحن نرد عليك بسلاحك: لم يقل هذا أحد قبلك. ناهيك أنه قياسي مع الفارق فأولئك أمراء للحظات، وهنا خلافة عظمى. وهناك مآخذ كثيرة لا مجال لها هنا. الخلاصة: أننا نريد من العقلية الفقهية أن تتحلى بثقافة الإقلاع؛ ذلك أن هذه الثقافة الناظرة إلى العالم بعيون الموتى لم تعد هي ثقافة الإقلاع المنشودة اليوم. إن الثقافة المنشودة هي ثقافة السياسة الشرعية، ثقافة المصالح الراجحة فقط ثقافة مصالح مؤطرة بمقاصد الشريعة، ولتكن أولى هذه المقاصد في الترتيب الإجرائي هي الحرية كما يقول فقيه العصر يوسف القرضاوي حفظه الله والغنوشي وغيرهما، هذه هي ثقافة الفقه الحيوي، ثقافة الإقلاع. لكن بعض العقول تدهور تفكيرها -وهو تدهور طبيعي نظرا لمحدودية النظر الذي تعيشه في إطار الفقه الجزئي، تريد أن تقول لنا: إن أفكار السلطان الغوري حاكم مصر في القرن الثامن الهجري هي دستور لنا في هذا اليوم؟ وقبل الأخير أتساءل مع العقلية المتدهورة والقابعة في البرلمان اليمني في آن: أناشدكم الله يا ذوي الحناجر السميكة التي تدّعي الدفاع عن الشريعة الإسلامية أين كنتم يوم صدر القانون العسكري الذي نص على عقوبة الإعدام في (315) حالة عقوبة تعزيرية؟ هل هذا قانون إسلامي أم قانون هولاكو؟ فإن قلتم من الإسلام..نقول بئس الفرية على الله ورسوله وإن قلتم ليس من الإسلام في شيئ نقول لكم: كيف تم تمرير هذا القانون وكيف صوتم على شيء يخالف الإسلام؟ أنتم تقولون: إن دستور اليمن أفضل دستور على الإطلاق لأنه إسلامي فيكف رضيتم بما يخالفه يا من ملأتم الدنيا تهريجا؟ إن دستوركم الإسلامي: جعل الرئيس بمنزلة (من لا يُسأل عما يفعل) هل هذا هو الإسلام؟ دستوركم الذي تدّعون أنه إسلامي كرس الفردية بأبشع صورها، إذ جعل المستبد الجلاد هو السيد المطلق الذي لا رادَّ لقضائه، والبرلمان لا يساوي شيئا، هل هذا الدستور يعكس مجتمع الرشد والشورى؟ إنكم قل ما ناديتم باستقلال القضاء في حين أنكم جعلتم في دستوركم الإسلامي وصادقتم عليه أن المحكمة العليا هي شُرطي تحقيق عند البرلمان الممتلئ بالأميين حرفيا وثقافيا وفكريا. يا سادة: راجعوا معلوماتكم واعتذروا للشعب عما جنته سواءتكم الفكرية، وعودوا إلى فقه المصالح، أما تصرفاتكم السابقة في الدستور وغيره فأنتم أقرب إلى قول البردوني رحمة الله عليه: «وأبي يعلمنا الضلال ويسأل الله الهداية»!! والحق يُقال هناك: ضاع شعب هكذا قادته. * الأهالي نت