" حرقة ووجع لا متناهيين" يسريان في اليمن بعد جريمة قصف التحالف لسكن المهندسين الكهربائيين في المخاء امس، تذكرني تماماً بتلك الحرقة والوجع الذين سريا في الناس-ولمستها بشدة في صنعاء- بعد جريمة قصف الحوافيش لحي منصورة عدن كمثال . كل من قابلتهم اليوم، ومن مختلف مناطق اليمن، مستهم الفاجعة بدون استثناء : من حضرموت وابين والحديدة وذمار وريمة وعمران والجوف وإب والمحويت والضالع الخ ، كانوا يتألمون تماماً لرخص دم الانسان اليمني دون انحياز احمق لمراكز القوى والقتل الداخلية، او للأطراف المعنية في اليمن من السعودية الى حزب الله . هكذا بتلقائية شعبية حقيقية وجارفة سمعتهم في السوق وفوق الباص وفي المقهى وفي المطعم، وفي المقيل الخ ، يتحدثون بحرقة ووجع فائضين عن الفاجعة الأخيرة ، مستعيدين أيضاً جملة من الفواجع أبرزها ضرب سوق المواشي في لحج، و سوق عاهم بحجة ، فضلاً عن صيغة القنص و القصف العشوائي على المنازل في تعزوعدن ، وكذا مختلف الابادات للقرى في صعدة وخولان، اضافة الى ضحايا عمليات السيارات المفخخة في صنعاء الخ . طبعاً في هذا السياق الجياش تلمست واحدية الاحساس المتفوق و المتسم بنبالته الاستثنائية –بينما نكاد ان نفتقده في خضم التجريف الممنهج – ومايضفيه من تضامن مطلوب وخلاق في أفق النسيج الوطني المهترئ ، لتدعيم الذات اليمنية بأرقى صور المقاومة والرفض والاحتجاج والتماسك بتجلياته السياسية والفكرية والسلوكية. فالحال ان هؤلاء الذين طالتهم صدمة الحروب جيداً ، يشكلون عودة الروح اليمنية البهية . ذلك انهم كانوا يترحمون على الضحايا في عموم اليمن بقلوب مكلومة ويلعنون متسببيها في وقت واحد، كما بحزن مبين على تدهور احساس اليمنيين بأنفسهم وكذا تدهور مجمل الاوضاع على مختلف المستويات في البلاد . بالمقابل أيضاً كانوا في كامل القلق على مستقبل اليمن ومستقبل اطفالهم ، مدركين لوعة الفقد والنزوح واللجوء والتشرذم، اضافة الى وعيهم بفداحة استمرار العيش دون كرامة ولا عدالة ولا قانون ولا دولة ضامنة . وحيث اقدم بعضهم مثلاً على لعن من يخفي الاسلحة في المنشئات العامة ، كان هؤلاء يلعنون في الوقت نفسه من يقصفها بدعوى ان فيها اسلحة كونها منشئات اليمنيين وليست منشئات قوى الصراع . على ان هذه النوعية من البشر الأسوياء، تمثل عينة فقط من غالبية الوطنيين الانقياء والمدنيين الذين يقيمون المشهد دون مناورات وانما برجاحة عدم التورط في مايجري من انتقامات واوهام وتشوهات . و باعتبارهم يأملون بوطن لائق بأحلامهم وبتجانسهم القيمي ، فإنهم يتوحدون في مجمل آلامهم التي تتكرر جراء دأب الجانبين المسعورين من الداخل والخارج ضد الابرياء دون مراجعات او نهايات تذكر . صحيح انهم بلا حيلة موضوعية مباشرة في مجابهة المتحاربين ، إلا انهم يرون بأن تماسكهم هو افضل مايمكن الخروج به من معمعة الحروب وخرابها ، ولما من شأنه انقاذ الحياة ومراعاة مشاعر المتضررين والضحايا بإيجابية فعالة ذات اثر انساني ووطني ، فضلاً عن قدرتها في تدعيم صراخهم الحر بوجه كل من يتغاضون عن جرائم الحروب ولامبالاة المتحاربين الفادحة . اما الذين "يطبلون " ويسوغون للدماء بهوس صادم، كما بسلبية الاسترخاء الذي يخلو من ادنى مسئولية أو شعور انساني ووطني " حتى انهم لا ينتقدون مثل تلك الاساليب الفظيعة اللامعقولة التي يدفع ثمنها الابرياء و لا يقرها اي ضمير، تارة كي لا يجرحوا مشاعر الطيارات التي يقولون احيانا وعلى مضض انها اخطأت ، وتارة كي لايجرحوا مشاعر الميليشيات التي يقولون احيانا وبعجرفة غبية انها مجبورة "؛ اقول ان المنتمين لهذه النوعية الرديئة من اللابشر هم من يمعنون في نذالتهم وحالتهم الإمعية السافرة ، لكنهم بالرغم من ذلك يبدون كقلة مخبولة وناشزة ليس إلا ، كما لا يطاقون ولا أمل فيهم ، لأنهم لايهابون مايفعلونه بقدر ماينشرحون بجلبهم للسخط و للأسى، خصوصاً وهم يدأبون حثيثاً على التمييز بين اليمنيين الى جانب تسعيرهم المتصاعد والسافر للدمار وللعبث وللفساد و للقتل المجاني بلذة مرضية بائنة للأسف . والثابت ان جرائم ومواقف كهذه من الصعب ان تنسى ، بل انها ستظل تتوهج في الذاكرة اليمنية الجامعة رغماً عن كل شيء، على الاقل ليحاكم التاريخ مرتكبيها اخلاقياً، وليدينهم وجدان اليمنيين المتعافي بالضرورة .. طال الزمان أو قصر . وبما ان اليمن صارت في ظل الخوف الجوهري الذي يتعاظم من الانهيارات الكبرى ، تغرق في المآسي الخصبة والوعي اللاوطني المتربص ، ينبغي التذكير دائماً بأن اصحاب الطموحات اللئيمة والوقحة من سماسرة الحروب ومافيات الهيمنة هم الذين سيظلون يبتهجون فقط باستمرار سفه وخفة الطيش الدموي الماحق والمعقد والاخطر الذي يجتاح البلاد منذ أشهر ، مايعني وجوب ايقافه العاجل كخطيئة عليا ارتكبت بحق اليمن ، وذلك من اجل استعادة الالتزام الناضج والشاق تجاه العملية السياسية التوافقية للخروج من المرحلة الانتقالية بصيغة دستورية ومصلحية جامعة تضمن الاستقرار والتطور ومعالجة القضايا العالقة والمستجدة وتحقق الدولة المدنية ، وأيضاً كي لا تنمو القيم ما دون الوطنية كمعادل موضوعي، خصوصاً بعد تداخل وتعدد مشاريع العنف والقوة والارهاب ذات المنهج المأزوم في تكريس وهم المشروعية الانفرادية وقيام كهنة الجيوب الانعزالية بتجذير جغرافيات وطوائف الفاشيات المذهبية والمناطقية المصطفاة ، تلك المحكومة بحساباتهم الضيقة ومغامراتهم المبهمة والنكوصية المتصادمة مع المشروع الوطني الاصيل الذي يجب ان لا تخسره اليمن أكثر، مهما بلغت قساوة الظروف، و مهما كانت الذرائع . إلا ان اكثرهم لايعقلون ، بل لايريدون ان يفهموا معنى ان تتلاشى رويداً رويداً كل الفرص التي كانت ممكنة ومتاحة للتسوية وللسلام ولازدهار الوطن اليمني الواحد .