عار على الجنوب وقيادته ما يمارسه الوغد رشاد كلفوت العليمي    الرئيس الزُبيدي يقرر إعادة تشكيل تنفيذية انتقالي شبوة    الدور الخبيث والحقير الذي يقوم به رشاد العليمي ضد الجنوب    قصص مدهشة وخواطر عجيبة تسر الخاطر وتسعد الناظر    تعزيزات امنية حوثية في البنوك بصنعاء بعد تزايد مطالبة المودعين بصرف أموالهم    وداعاً للمعاصي! خطوات سهلة وبسيطة تُقربك من الله.    ثنائية هالاند تُسحق ليفربول وتضع سيتي على عرش الدوري الإنجليزي!    عدن تنتفض ضد انقطاع الكهرباء... وموتى الحر يزدادون    "امتحانات تحت سيف الحرمان": أهالي المخا يطالبون بتوفير الكهرباء لطلابهم    "جريمة إلكترونية تهزّ صنعاء:"الحوثيون يسرقون هوية صحفي يمني بمساعدة شركة اتصالات!"    "الحوثيون يزرعون الجوع في اليمن: اتهامات من الوية العمالقة "    شاهد:الحوثيون يرقصون على أنقاض دمت: جريمةٌ لا تُغتفر    ليست السعودية ولا الإمارات.. عيدروس الزبيدي يدعو هذه الدولة للتدخل وإنقاذ عدن    صراع على الحياة: النائب احمد حاشد يواجه الحوثيين في معركة من أجل الحرية    البريمييرليغ: السيتي يستعيد الصدارة من ارسنال    زلزال كروي: مبابي يعتزم الانتقال للدوري السعودي!    الوكيل مفتاح يتفقد نقطة الفلج ويؤكد أن كل الطرق من جانب مارب مفتوحة    رئيس انتقالي لحج "الحالمي" يعزي في وفاة الشخصية الوطنية والقيادية محسن هائل السلامي    مانشستر يونايتد الإنجليزي يعلن رحيل لاعبه الفرنسي رافاييل فاران    ارتفاع طفيف لمعدل البطالة في بريطانيا خلال الربع الأول من العام الجاري    في الذكرى ال 76 للنكبة.. اتحاد نضال العمال الفلسطيني يجدد دعوته للوحدة الوطنية وانهاء الانقسام مميز    المنامة تحتضن قمة عربية    وفاة امرأة وطفلها غرقًا في أحد البرك المائية في تعز    الذهب يرتفع قبل بيانات التضخم الأمريكية    أمين عام الإصلاح يبحث مع سفير الصين جهود إحلال السلام ودعم الحكومة    كريستيانو رونالدو يسعى لتمديد عقده مع النصر السعودي    سنتكوم تعلن تدمير طائرتين مسيرتين وصاروخ مضاد للسفن فوق البحر الأحمر مميز    بريطانيا تؤكد دخول مئات السفن إلى موانئ الحوثيين دون تفتيش أممي خلال الأشهر الماضية مميز    افتتاح مسجد السيدة زينب يعيد للقاهرة مكانتها التاريخية    الولايات المتحدة: هناك أدلة كثيرة على أن إيران توفر أسلحة متقدمة للمليشيات الحوثية    مجازر دموية لا تتوقف وحصيلة شهداء قطاع غزة تتجاوز ال35 ألفا    اليمن تسعى للاكتفاء الذاتي من الألبان    طعن مواطن حتى الموت على أيدي مدمن مخدرات جنوب غربي اليمن.. وأسرة الجاني تتخذ إجراء عاجل بشأنه    بن عيدان يمنع تدمير أنبوب نفط شبوة وخصخصة قطاع s4 النفطي    وصمة عار في جبين كل مسئول.. اخراج المرضى من أسرتهم إلى ساحات مستشفى الصداقة    برشلونة يرقص على أنغام سوسيداد ويستعيد وصافة الليغا!    أسرارٌ خفية وراء آية الكرسي قبل النوم تُذهلك!    استعدادات حوثية للاستيلاء على 4 مليار دولار من ودائع المواطنين في البنوك بصنعاء    إنجاز يمني تاريخي لطفلة يمنية    لاعب منتخب الشباب السابق الدبعي يؤكد تكريم نجوم الرياضة وأجب وأستحقاق وليس هبه !    ليفربول يسقط في فخ التعادل امام استون فيلا    سيف العدالة يرتفع: قصاص القاتل يزلزل حضرموت    ما معنى الانفصال:    جريمة قتل تهز عدن: قوات الأمن تحاصر منزل المتهم    البوم    الامم المتحدة: 30 ألف حالة كوليرا في اليمن وتوقعات ان تصل الى ربع مليون بحلول سبتمبر مميز    دموع ''صنعاء القديمة''    في افتتاح مسجد السيدة زينب.. السيسي: أهل بيت الرسول وجدوا الأمن والأمان بمصر(صور)    فريق مركز الملك سلمان للإغاثة يتفقد سير العمل في بناء 50 وحدة سكنية بمديرية المسيلة    احذر.. هذه التغيرات في قدميك تدل على مشاكل بالكبد    هل تعاني من الهم والكرب؟ إليك مفتاح الفرج في صلاةٍ مُهملة بالليل!    اشتراكي المضاربة يعقد اجتماعه الدوري    وزير المياه والبيئة يزور محمية خور عميرة بمحافظة لحج مميز    بالفيديو...باحث : حليب الإبل يوجد به إنسولين ولا يرفع السكر ويغني عن الأطعمة الأخرى لمدة شهرين!    هل استخدام الجوال يُضعف النظر؟.. استشاري سعودي يجيب    قل المهرة والفراغ يدفع السفراء الغربيون للقاءات مع اليمنيين    مثقفون يطالبون سلطتي صنعاء وعدن بتحمل مسؤوليتها تجاه الشاعر الجند    هناك في العرب هشام بن عمرو !    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مشاهدات حضرمية في الديار الفرنسية

يأخذني الحنين إلى حضرموت مسقط الرأس حيثما أكون، حنين جارف إلى مراتع الصبا، مع الأصدقاء والذكريات الجميلة والعادات الأصيلة. وكلما طال الغياب عن حضرموت ازداد الحنين أكثر وأكثر حتى صارت حضرموت تسكننا حقيقة.هذا الصيف أخذتني إجازتي إلى باريس لقضاء أوقات استجمام ومتابعة بعض الأمور المتعلقة بالعمل، وعلى قولتنا في حضرموت: حج وحاجة .
باريس التي احتضنتني شاباً أيام الدراسة الجامعية قبل أكثر من ثلاثين عاماً غير باريس اليوم .. كنا في ذاك الزمان ننطلق بحيوية نحو اكتشاف الغرب، واليوم أجد أنني أحاول اكتشاف أشياء أخرى منا ومن بلادنا في بلاد الغرب وديارهم.
براوطة وصانة لخم في باريس
كنت عابراً في طريق جانبي فلفت انتباهي لوحة مطعم عربي. أنا إذن أمام شيء مما أفتش عنه في باريس. اقتربت أكثر فإذا اللوحة مكتوب عليها بالعربية والفرنسية : Restaurant Baabood مطعم باعبود- Meilleur de la cuisine arabe Hadrami أجود الأكلات العربية الحضرمية. كم أنت محظوظ يا عبدالرحمن. قلت في نفسي.
هذا يوم تاريخي من أيامي في باريس، سأذوق الأكلات الحضرمية التي لم يخطر ببالي أن أذوقها هنا في باريس أنا القادم من الخليج منذ أسبوعين. دخلت المطعم.. الوجوه فرنسية وعربية من شمال إفريقيا .. حييتهم بالحضرمية، لم ألق جواباً، فاضطررت للتحية الفرنسية: Bonjour.
لوحة الأطباق أمامي مع الصور التوضيحية مكتوبة بالعربية والفرنسية.. أكلات عربية شامية وخليجية وأجنبية لكن الذي شدني منها شيء له علاقة بمسقط الرأس حضرموت: Ceratophyllus (déchets de poisson) الكراش- Hadrami soupe الشربة - Albachmra (Almendazi) الباخمري- Lkhm Immunité (requin) صانة لخم- poissons riz)) Sayadieh صيادية- Brauth (pain indien Hadrami) براوطة - la viande grillée اللحم المشوي - Alchukhuckh (œufs avec des tomates et des oignons) الشكشوكة Mash et Alashehad - الهريس والعصيد.
كم أنت محظوظ يا عبدالرحمن.. هريس وعصيد في باريس!..وصانة لخم، وكراش، وباخمري، وصيادية!! إذن سيطيب لك المقام في عاصمة النور.
سألت النادل:
- أين صاحب المطعم؟
فأجابني بالفرنسية: إنه حاج عربي، أوكل أمر المطعم إلى زوج ابنته الفرنسي (من أصل جزائري)...
فقلت له : هل استطيع مقابلته؟
فقال: كلا. إنه رجل طاعن في السن، وأصيب مؤخراً بالألزهايمر.
قلت: وهل لي بمقابلة زوج ابنته؟
قال: مع الأسف إنه مسافر منذ أسبوع، لكنه سيعود آخر الشهر.. لكن لماذا تسأل؟
قلت: أريد معرفة أشياء عن وجود الحاج والمطعم في باريس؟
ثم سألته: مااسم هذا الحاج؟
فقال: مبارك باعبود.
تأسفت لأنني لا أستطيع لقاء الحاج مبارك ، ولا زوج ابنته..
تساءلت في نفسي: وهل استطيع مقابلة ابنته؟ لكنني ترددت فلم أسأل النادل.
انصرف النادل بأدب جم متمنياً لي شهية طيبة.واضعاً أمامي طلبي العزيز: براوطة مع صانة لخم ، ثم استغرقت في حديث داخلي مع نفسي عن حضرموت والحاج باعبود والمطعم الحضرمي في باريس.....ولم أفق من استغراقي الذاتي إلا على لوحة في ركن المطعم تدل مرتاديه على بعض ما يقدمه الحاج باعبود لمن يرغبون: Miel
Doni – Hadrami عسل دوعني حضرمي
Ventouses الحجامة
Arashbh (pipe à eau)الرشبة
Tabac à priser النشوق.
ازداد فضولي فقررت أن أعود إلى المطعم في المساء أو الغد لعلي أجد إجابات لأسئلتي الحائرة.. في الحلقة القادمة تفاصيل اليوم الثاني في مطعم باعبود الباريسي.
2
من الحرم المكي إلى الشانزليزيه
لم استطع صبراً حتى الغد فقادتني قدماي إلى المطعم مساءً، اتخذت مقعدي في مكان الصباح، وما أن رآني النادل حتى تهلل وجهه وبادرني بالتحية، فقلت له: هل تسمح لي ببعض الحديث؟ رجوته أن يدلني على من يعرف شيئا عن الحاج باعبود،.فأطرق قليلاً ثم قال: حسناً سأدلك على صديق الحاج، انتظر.
قدّم لي كوباً من النسكافيه، وظللت أتأمل المطعم وزبائنه، وبينما أنا على تلك الحالة، أقبل النادل ليخبرني بأن صديق الحاج باعبود بانتظاري في المقهى المجاور.
قدمني النادل للسيد جاك رينيه بقوله: السيد عبدالرحمن من بلد الحاج مبارك، ثم انصرف.
تبادلنا عبارات المجاملة التقليدية، ثم بادرته:
- ما حكاية الحاج مبارك؟
ابتسم السيد جاك، واعتدل في جلسته، ثم قال:
- حكايته حكاية!, مبارك صديق نبيل جداً، عرفته منذ الشباب، عندما أتى إلى باريس، تقابلنا صدفة في محطة المترو، كان لا يجيد الفرنسية، واستعان بي كي أدله على بانسيون يقضي فيه ليلته. أحببته منذ الوهلة الأولى، قرأت في ملامحه شخصية نبيلة، وشهامة، وصدق.
تسألني كيف وصل هذا الحضرمي إلى باريس، وصار له فيها هذا المطعم الذي يرتاده زبائن من جنسيات عديدة؟
حكى لي أنه كان يعمل بحاراً بين عدن وجيبوتي، وارتحل على باخرة إلى مكة لأداء الحج، وكانت تراوده فكرة السفر إلى أوربا، ومن جدة استقل باخرة إلى مصر ثم فرنسا.
صرنا صديقين، وساعدته في أن يبدأ حياته بما كان معه من نقود ليست كثيرة، فعمل أميناً للمال في المتجر الذي يملكه أبي، في الشانزليزيه.
كان أبرز مايميزه أخلاقه العالية وأمانته، فأحبه أبي، ومنحه غرفة في بيتنا وعامله معاملة الابن،. وكان حريصاً على عدم الإسراف والتبذير، وكان مسلماً في بساطة واعتدال، وكنا نحترم شعائره التي كان يمارسها بهدوء.
عرفنا منه أنه من بلد اسمه حضرموت يقع على بحر العرب، وأن تلك البلاد لها تاريخ وحضارة، وأن أهلها يفتخرون بأمانتهم، والحقيقة أن مبارك كان سفيراً لحضرموت في باريس، بسلوكه الهادئ.
أحسست بزهو وهو يتحدث عن الحاج باعبود بهذه الطريقة، فسألته: وماذا عن زواجه؟ والمطعم؟
ابتسم السيد جاك ثم قال: لم تكن لمبارك مغامرات عاطفية أو نزق لكنه كان يحدثني عن رغبته في الاقتران بفرنسية وتحدثنا عن الاختلاف الديني فأوضح لي أن دينكم يجيز له التزوج بالمسيحية، وقد فاجأني يوماً بأن له علاقة بفتاة من ضواحي باريس، هي السيدة كاتي أم ابنته الوحيدة ليليان النائبة السابقة في البرلمان الفرنسي عن الحزب الاشتراكي.
استقل بشقة خاصة مع زوجته، وساعده أبي ففتح بوفيه لإعداد الوجبات السريعة، حتى تحسن وضعه، ففتح هذا المطعم.. بدأه بالأكلات الفرنسية والأوربية، وبعد أن اطمأن إلى وضع مالي جيد، فاجأني برغبته في أن يضيف إلى قائمة الطلبات أكلات عربية وحضرمية على وجه الخصوص.
كان لديه حنين إلى بلده، وكان في أماسي نهاية الأسبوع يدندن لنا بألحان شجية من تراثكم الجميل، وكان صوته حسناً، وكانت أمي تعتبره ابناً لها، وتوطدت العلاقة أكثر بعد زواجه وإنجابه ابنته الوحيدة.
في البداية لم يكن الإقبال جيداً على الأكلات الحضرمية، لكن الحاج مبارك لم يحزن، بل طلب مني أن أحضر له مجموعة من الشباب والشابات ليدربهم على بعض الرقصات الشعبية من بلده، يشد بها الزبائن إلى الأكلات الجديدة، وقد عجبت من عشقه للتراث الشعبي وقدرته على تدريب المجموعة التي بدأت بتقديم رقصات من تراثكم نهاية كل أسبوع مقابل تناول وجبة حضرمية، حيث نالت الرقصات الإعجاب وجذبت الزبائن وروّجت للمطعم وأكلاته الجديدة.
كان مبارك في تلك الليلة في غاية الانشراح، وقد صاحبَ بعض الرقصات بالعزف على الناي العربي والإيقاع الإفريقي، وأذكر أنني سألته عن فنونكم وحدثني عنها بفرح شديد، ورقص بحركاته الخفيفة رقصات رائعة منها، وذكرَ لي أسماءها وكتبت عنها مقالاً في الصحافة.
ثم قال لي جاك: ذكّرني بأسمائها؟
فقلت له: الزربادي؟
فقال: لا .
قلت: العدّة؟
فقال: لا.
قلت: الدحيفة؟
فقال: أووووه الدهيفة الدهيفة!!
في الحلقة الثالثة تفاصيل أخرى عن الحاج باعبود في باريس.
3
باعبود ورمضان باريس
سعدت كثيرا بمحادثة السيد جاك رينيه (65 عاماً) صديق الحاج مبارك، وأحسست بعمق الصداقة بينهما وأن بينهما أموراً خاصة جداً، فحفزني ذلك على الدخول معه في تفاصيل أدق عن حياة الحاج في باريس؛ فسألته:
- قلت لي أن الحاج مبارك كان معتدلاً في إسلامه. كيف ؟
- الحاج مبارك يحترم الخصوصيات و لا يتظاهر بتدينه، ولا يجادل، ولم يدعُني للدخول في الإسلام كما فعل معي أحد ضيوفه الخليجيين (بلباسه العربي التقليدي)، لكنه كان منضبطاً في سلوكه على عكس ذلك الخليجي الذي دعاني إلى الإسلام وجادلني بطريقة عنيفة استفزتني كثيراً، ثم وجدته يترنح مخموراً ذات ليلة بجوار المطعم، بعد أن عاد من أحد الكابريهات.
ثم بادرني السيد جاك بالسؤال: هل تحترمون الخصوصيات في بلدكم؟ فقلت له: أعتقد أن الحاج مبارك خير جواب. إنه لم يفعل ذلك إلا لأنه نشأ نشأة وسطية معتدلة بلا غلو، وقد حدثني عن تكوينه الصوفي. لكن دعني أسألك: هل أسلمت السيدة كاتي بعد زواجها بالحاج؟ .. أجاب: كلا, ظلت مسيحية إلى أن توفاها الله، وابنتها السيدة ليليان أخذت من آداب أبيها وأمها ولكنها لم تعتنق أي ديانة.
وكيف قبل الحاج مبارك بأن تكون ابنته بلا ديانة ؟ رشقته بالسؤال. فقال: دار نقاش طويل وعميق بين الثلاثة، ثم حسموه باحترام كل منهم للآخر.
- وكيف تم حسمه ؟
قال السيد جاك: في طفولة ليليان اتفق مبارك وكاتي على ألا يمارس أيّ منهما تأثيره الديني على ليليان، وأن يتركاها إلى أن تبلغ سن التمييز، ثم يدخلان في نقاش معها حول خياراتها، لأن التدين مسألة بين الخالق والمخلوق.
- وكيف قبل الحاج هذا ؟
- قلت لك إن الحاج متوازن وأكسبته المعيشة في باريس ثقافة القبول بالآخر، بعد أن تعايش والسيدة كاتي وهما على ديانتين مختلفتين، وبينهما حب وانسجام عميق، بل إن السيدة ليليان متأثرة بأفكار الحاج مبارك ومن منطلق الحريات كانت ضد تقييد الحريات ومنها منع الحجاب في فرنسا مع أن السيدة ليليان غير محجبة طبعاً، وكانت لها مواقف في البرلمان مناصرة للقضايا الإنسانية ومنها العربية والإسلامية في أكثر من مناسبة، وتدعم معنوياً بعض المؤسسات المدنية المناصرة لحريات وحقوق للعرب والمسلمين وغيرهم في أوربا عامة وفرنسا خاصة.
لم أُخْفِ عجبي من طريقة الحاج مبارك في التعايش مع زوجته وابنته، لكنني أعجبت بشخصيته التي تكيفت مع المجتمع الفرنسي من دون أن تنسى أصول نشأتها وتربيتها وخلقها وأمانتها.
استأذنني السيد جاك لارتباطه بموعد، واتفقنا على لقاء مسائي في الكافيه المجاور للمطعم. وفي المساء قدم لي السيد جاك، الشابة ماري (21 عاماً) حفيدة الحاج مبارك، وأسعدني أنها حيتني بالعربي بلكنة فرنسية طفولية: ((سالامو ألايكم))، فرديت التحية بأحسن منها، وسألتها هل تتحدثين العربية ؟ أومأت برأسها وقالت: (( شُووَيّا شُووَيّا .. وأأرف هادرامي جُدّو موباراك ألمني هادرامي .. وأارف جازائيري .. )).
ثم اعتذرت لأنها مرتبطة بالتزام ثقافي، هي وصديقها أوليفر وقالت إنها تتمنى زيارة حضرموت حيث وُلد جدها العزيز. ودّعتني بلطف شديد، تاركةً أسئلة كنت أتمنى معرفة إجاباتها منها، عن جدها و أمها وأبيها الفرنسي (من أصل جزائري)، وصديقها الذي كان يمسد على شعرها القصير أمامنا بحميمية واضحة.
سألت السيد جاك: وماذا عن المطعم في رمضان ؟ وكيف يكون رمضان في بيت الحاج مبارك المسلم وزوجته المسيحية وابنته اللادينية ؟
قال: احترام الخصوصيات يجعل الموضوع بسيطا. في رمضان يتعدل برنامج البيت احتراما لصيام مبارك وكذلك الحال عندما يكون الموضوع متعلقا ب(كاتي) وصيامها، وابنتهما تحترمهما على حد سواء، لأن الطريق إلى الله (أو إلى السماء كما قال) متعدد المسالك في نظرهم واتفاقهم ولذلك يتعايشون بتسامح وسلام.
وكيف يكون المطعم في رمضان؟ قال السيد جاك: يراعي الخصوصية ويخصص للصائمين وجبات خاصة في مواعيد الإفطار والسحور. يقدم الشوربة والمقليات العربية والحضرمية واللحم بطرق عديدة لذيذة ويرتاده المسلمون الأفارقة وعرب شمال أفريقيا وبعض الخليجيين، ويقدم الحاج مبارك أسعاراً مخفضة للصائمين طوال رمضان، ويكون في غاية السعادة.
- هل غادر الحاج باريس إلى بلاده منذ أن استقر فيها ؟ قال السيد جاك: لا، لكنه لم يقطع صلته بأهله فبينه وبينهم مراسلات مستمرة، وزاره أحد أعمامه المقيمين في الخليج، وكان الموقف درامياً، عاد مبارك إلى سنوات شبابه وكانا يتحدثان بطريقة حميمية قال لي بعدها أن عمه أعاد شريط ذكرياته وأثار أشجانه.
عدت إلى الأكلات فسألت السيد جاك: ومن أين يأتي باللخم ؟ فقال: أووه مبارك إنسان عملي، اتفق مع شركة اصطياد على توفير القرش مجففا، وأشرف في البداية على طريقة إعداده ثم أوكل الموضوع لمساعديه. وكذلك الكراش، الذي أصبح له زبائنه (المدمنين) !.
أحسست أنني أثقلت على السيد جاك بأسئلتي فاعتذرت له، فعاتبني بقوله: إطلاقاً، أنت من بلد صديقي ويسعدني أن أتحدث معك. فقلت له : بقيت لدي رغبة في مقابلة ابنته ليليان وزوجها الجزائري، ممكن؟ فقال: عندما يعودان من سفرهما ستكون مدعواً للعشاء معهما في بيتي.
للحديث صلة في الحلقة (4) الأخيرة.
4
- ماري حفيدة باعبود تسأل عن حضرموت
انتظرت دعوة السيد جاك رينيه للعشاء لأحظى بلقاء ليليان باعبود وزوجها الجزائري الأصل محمد بلحاج، لكن السيد جاك أخبرني بأنهما سيتأخران أسبوعين لسفرهما إلى الجزائر في مهمة إنسانية، وأعطاني إيميلها لأتواصل معها بعد أن أخبرها عني، فرحبت بكل سرور كما قال لي.
كنت أتمنى أن أقنعها بزيارة خاصة لحضرموت وأن أسألها ما إذا كان أوصى الحاج مبارك بأن يدفن عند الوفاة في فرنسا أو ينقل إلى حضرموت ؟
لم يبق لي في باريس سوى أيام معدودات، فطلبت إلى السيد جاك أن يرتب لي لقاءً مع الشابة ماري محمد بلحاج حفيدة الحاج مبارك - بعد أن تعذر عليّ مقابلة الحاج مبارك لحالته الصحية وإصابته بالألزهايمر - فأخبرني بأن برنامجها اليومي ليس فيه فراغات كافية، لكنه سينسق الأمر معها في عطلة نهاية الأسبوع.
رتب السيد جاك رحلة لعائلته على شرفي، ودعا إليها ماري وصديقها، كان كل شيء حولي فرنسياً 100%، الأكلات، اللهو والمرح، الموضوعات، لولا اللحظات التي اختلستها للحديث مع ماري وصديقها، وساعدني أن لديها فضولاً معرفياً للتعرف على بلد جدها مبارك الذي تحبه كثيراً، وتعبر عن إعجابها بشخصيته مرة بعد أخرى.
من الأسئلة التي حرصت على طرحها عليها: هل للحاج مبارك رأي في صداقتها لأوليفر ؟ ضحكت حتى كادت تستلقي على ظهرها ثم قالت ضاحكة: جدّو مُوباراك مُوش مُأقّد (ليس معقّداً). ثم أضافت: هُوَا يُوحِبُو أوليفر جِيْ دَان (تقصد: أن جدها يحب أوليفر جداً). ثم سألتني:
- هل لديك بنات ؟
- نعم عندي ابنتان.
- وهل لهما أصدقاء ؟
- لا.
- لماذا ؟ هل هما طفلتان ؟
- لا.
- هل لديك اعتراض ؟
- لست ضد التعارف.. ولكن تقاليد المجتمع لا تسمح.
وهنا باغتتني بسؤال: هل تضعان النقاب على وجهيهما ؟
- نعم
- وتمشيان في الشارع بالنقاب ؟
- نعم.
- أوه.. كيف إذن سأمشي في الشارع إذا زرت حضرموت ؟
- أنت أجنبية، ولا مانع من أن تمشي بلا نقاب هناك.
- لن أتعرض لمضايقات ؟
- أبداً.. اطمئني.
- يعني لا توجد امرأة واحدة بلا نقاب في شوارع حضرموت ؟
- نعم.
- أوه ! معقوووووول؟ ! هذا صعب.. صعب جداً.
- نعم.
- لم يحدثني جدي عن هذا.. كان يحكي لي قصصاً عن حضرموت والنساء العاملات مع الرجال في الحقول والمراعي، وحرية الفتيات في اللعب مع الفتيان عندما كان صغيراً.
- أها، صحيح كان الوضع كذلك، لكنه تلاشى الآن.
- وكيف تتقبل البنات والنساء هذا الوضع ؟ ألا يتضايقن منه ؟
هززتُ رأسي، علامة الإيجاب، فقالت:
- ألا توجد حركات مناهضة للتضييق على المرأة ؟
- ربما بعضها هناك.
- ولكن لماذا ؟ هل هو تابو ؟
- أصبح كذلك.
- وفي الجامعة تجلس الطالبات على المدرج منقبات ؟
- نعم.
- كلهن ؟
- نعم.
- أوووه هذا صعب جداً جداً.
- وكيف هو الوضع في المطاعم والاستراحات العامة المختلطة ؟
- ليست مختلطة.. لدينا أقسام خاصة للعوائل.
- عفواً وكيف تأكل المرأة وهي منقبة (قالتها وهي تضحك).. أوووه صعب جداً !.
- هناك صعوبة أكيدة.
- ولماذا النقاب والأقنعة والتضييق في الملبس والحركة ؟
- العادات الاجتماعية وبعض الآراء الدينية السائدة الآن.
- في الجزائر الوضع مختلف وفي شمال أفريقيا.
(علّق أوليفر بعد أن ترجمت له ماري خلاصة حديثنا: أوه ...أنا في غاية الشوق لرؤية نساء يمشين في الشوارع بأقنعة سوداء أووووه.. شيء لا يصدّق.. فانتازيا)، ولأنني أحسست بأن النقاش سيزهد ماري في زيارة حضرموت، وسيجد أوليفر فرصة للتندر على مجتمعنا، سارعت إلى تغيير الموضوع:
- ماذا تدرسين يا ماري ؟
- العلاقات الدولية.
- وأوليفر ؟
- الآثار
- جميل.. هل لك أن تحدثيني عن جدك مبارك ؟
ابتسمت ابتسامة صافية ثم قالت:
- جدي إنسان رائع جداً وكان يحكي لي حكايات مدهشة قال إن جدته كانت تحكيها له، كنت أنام طائرة على خياله الجميل.. عوالم تلك الحكايات خرافية ممتعة، وكنت أفتعل الأسباب لكي أحظى بحكاية كل ليلة، وهو حكّاء رائع، لديه قدرة على التشويق، والمفاجأة، وكانت أنفاسي تعلو وتهبط على إيقاع صوته واللحظات المتأزمة والمنفرجة، واااااااااااااو، يا للعجب !.
ألح عليّ سؤال اختيار المكان الذي يرغب الحاج مبارك أن يُدفن فيه بعد وفاته، فسألتها:
- هل حدثكم عن رغبته في ذلك ؟
قالت بحزن: لا أتخيل موته، لكنه كتب رسالة وضعها في خزانته وأوصى بفتحها بعد موته.. لا أدري !.
احترمت حزنها، فتمنيت له طول العمر، ثم اعتذرت لها عن أسئلتي التطفلية، فقالت: كلا، الحديث معك جميل ومفيد.
كانت الرحلة التي رتبها السيد جاك ممتعة، وختمتها بدعوتهم لزيارة حضرموت على أن نرتب أمرها عبر التواصل القادم، فعبروا - السيد جاك وماري وأوليفر - عن سعادتهم بالدعوة واللهفة لزيارة بلد الحاج مبارك باعبود.
غادرت باريس وفي نفسي رغبتان لم تتحققا هما: لقاء الحاج مبارك لأنه يعاني من الألزهايمر، ولا يستقبل أحداً، وابنته السيدة ليليان مبارك عضو البرلمان الفرنسي عن الحزب الاشتراكي، لسفرها خارج فرنسا، لكنني في الزيارة القادمة سأكمل ما لم استطعه في هذه المرة.
كلمة أخيرة:
كل المحبة لموقع المكلا اليوم وللسيد الناشر رئيس التحرير الأستاذ سند بايعشوت وللقراء الكرام في حضرموت والمهجر المتفاعلين بالتعليقات الجميلة أو بالرسائل الخاصة التي ازدحم بها إيميلي، وأخص بالذكر منهم العزيز المخرج أحمد بن يحيى، الذي أعده بإنجاز المهمة وإعدادها لتلبي رغبته العزيزة، وأقدّم الاعتذار لمن لم أشبع فضوله لمعرفة المزيد، فزيارتي لم تكن لغرض صحفي استطلاعي، ولكن صدفة التعرف على مطعم الحاج باعبود دفعتني لاقتطاع جزء من وقتي لاكتشاف حضرموت في الديار الفرنسية.. وأعدكم بتكرار الزيارة قريباً والكتابة عن سيرة هذا الرجل العصامي، بالتفاصيل الموثقة والصور، وسأستعين ببعض الأصدقاء لإتمام المهمة، وتقديمها باللغتين العربية والفرنسية بإذن الله.
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.