عبدالمنعم أبو الفتوح أحد قادة جماعة الإخوان المسلمين في مصر قبل أيام من أيام الأسبوع المنصرم وبينما أنا أتنقل بالضغط على أزرة التلفزيون ،فإذا بنظري يقع على قناة الجزيرة «مباشر» وقد كانت إحدى مؤسسات المجتمع المدني بمصر قد استضافته لا أذكر اسمها على وجه التحديد بهدف معرفة المزيد عن خطاب وتوجه هذه الجماعة وخاصة بعد أن عُرف أن لهم رؤية جديدة وبرنامجاً جديد اً وخطاباً آخر غير خطاب أيام زمان ..ثم بدأ الرجل يتحدث ..فإذا بي أسمع كلام رزيناً ومتزناً لم يسبق لي وأن استمعت إليه من أي داعية ..كلام لايختلف عن كلام أي سياسي ليبرالي . وعلى سبيل المثال لا الحصر فإنه قد برز مناصراً ومؤيداً لأفكار الدكتور : حسن الترابي بالسودان. لاسيما فيما يتصل بفتوى الدكتور الترابي بمسألة «الردَّة» فقال: إن قتل المرتد يتنافى وقول الله جلّت قدرته في محكم كتابه الكريم: «لاإكراه في الدّين قد تبين الغي من الرشد..»إلى آخر الآية ثم يستطرد الرجل قائلاً بصدد الاعتراف بالتعددية السياسية وبالآخر وحقه في ممارسة حقوقه السياسية فقال: لنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة بهذا الأمر ،حيث كان أول من وضع صيغة الوفاق والاتفاق بالمدينة ..تلك الصيغة التي عرفت فيما بعد بصحيفة ووثيقة المدينة،فبعد أن آخى بين المهاجرين والأنصار تلك المؤاخاة التي باتت مضرب الأمثال في الإيثار وتحقيق المعاني الحقيقية الصادقة ..بعد ذلك اتجه لوضع وثيقة للعيش والتعايش بين المسلمين واليهود والنصارى والمشركين من قريش الذين كانوا أشد خطراً على المسلمين من الأقوام الآخرين..ثم انتقل هذا العالم الجليل إلى موضوع آخر وهو موضوع الساعة «الإرهاب» فقال : إننا نرفض رفضاً قاطعاً ضرب المدنيين من الشيوخ والأطفال ..والأهم من كل هذا وذاك إن هذه هي المرَّة الأولى التي استمع فيها إلى قائد من جماعة الإخوان المسلمين يتحدث بهذه اللهجة وبهذا الخطاب الخالي من أي تكفير لخصومه السياسيين ، حيث قال: من حق كل جماعة أن يكون لها أي تنظيم أو حزب وتعلم عن أي برنامج تراه صالحاً ونافعاً للبلاد..وليس هذا وحسب،بل إنه في سياق حديثه الطويل قد استعرض وأشاد بمواقف وسلوك العديد من قادة مصر القدامى أمثال: مصطفى النحاس باشا وأثنى على زعامة بطل ثورة 1919م سعد زغلول.. وترحّم على جمال عبدالناصر وأنور السادات..واستنكر بشدة تصرفات بعض الجماعات والحركات الإسلامية المتطرفة التي لاتفقه من الدين إلا سطحه وقشوره..فأين هذا الرجل الناطق باسم جماعة الإخوان في مصر من هذا الكم الكبير من دعاة الإسلام الذين شوهوا معاني وجوهر مبادئ الإسلام الحقيقية ، فلقد كنت حريصاً على أن أتابع مداخلات جمهور الحضور الذين حضروا تلك الندوة وماهي إلا دقائق حتى كان تيار الكهرباء قد حسم الأمر بانقطاعه لتسود موجة من الظلام..وعلى كل حال فإن ما سمعناه من الدكتور عبدالمنعم أبوالفتوح فإن دلّ على شيء فإنما يدل على أن جماعة الإخوان في مصر قد أخذت تغير من خطابها السابق ومن طرق وأساليب دعوتها للتغيير السياسي والاجتماعي.. والمطلوب المزيد من التوضيح والترويج لهذه الدعوة حتى يعرف المواطن العربي المزيد عن المستجدات التي طرأت على أفكار واجتهادات جماعات الإخوان في مصر، وعلى اعتبار أن اخوان مصر قد كانوا هم البداية والنهاية وأية اجتهادات من جماعة مصر أمر له أهميته وأبعاده على مستقبل الوطن العربي بأجمعه. ففي آخر زيارة لي إلى مصر قبل أسابيع وما أن يسعد المرء بزيارة هذا البلد الطيب حتى حدثت أحداث مؤسفة عكّرت المزاج وأشعرتني بحالة من المرارة والاكتئاب وخاصة في بلد مثل مصر ، فلقد عاشت لقرون من الزمن في وحدة وطنية راسخة قلما عرفت الكثير من البلدان مثيلاً لذلك النسيج المصري العريق بين الديانتين الإسلامية والمسيحية..فأحداث الإسكندرية قد أثارت في أذهان العديد من مراقبي العالم جملة من التساؤلات المرتعشة: ما أسباب هذا الاختلال في العلاقات الأخوية بين الإخوة الذين ينحدرون من أبٍ واحد وأم واحدة؟ وهل صحيح كما يرى بعض المراقبين أن هذا الاختلال يعود إلى طريقة التعبئة والتلقين لبعض الأحزاب وخاصة منها المتطرفة ..أم أن هناك جفوة وقطيعة بين أوساط المجتمع ضاعف من ذلك عدم صيانة هذه العلاقة والعناية بها من جانب الدولة،أم أن الأمر أخطر من كل هذا وذاك؟ وهي اختلالات في السياسة التربوية والتعليمية من جهة الدولة وجمود في برامج التعليم العام ومن جهة ثانية قصور واضح لدور الثقافة في مصر بمعانيها الواسعة؟واليوم وبعد كل ماحدث أو لم يحن الوقت لإعادة النظر ببرامج التربية وتنقية الثقافة الحزبية من الكثير من المفاهيم الخاطئة..واعتبار المواطنة وحقوق كل مواطن هي الأساس والمعيار الذي يساوي بين الجميع.وأين ذهب ذلك الشعار الخالد:«الدين لله والوطن للجميع» ذلك الشعار الذي بقي المصريون يتفيئون به من ويلات المحن وعوادي الدهر؟إننا نأمل أن تكون دعوة الدكتور عبدالمنعم أبوالفتوح الأخيرة هذه فاتحة صفحة جديدة من العلاقات الأخوية بين كافة الأطياف..ثم لاننسى أن العرب كانوا وما زالوا ينظرون إلى مصر شعباً وحكومة على أنها بمثابة القلب والعقل إلى كيان الأمة وجسدها وإذا صلح القلب والعقل في أي كيان كان صلاح كامل الجسد..ولهذا فإننا لانزال نعقد كل آمالنا على دور مصر المنتظر لتقوم به على الوجه المطلوب..ففي مصر مخزون هائل من التجارب التاريخية والنضالية والمعرفية وأوعية هذا المخزون الهائل هم أبناء مصر ورجالها ونساؤها من المثقفين ورجال الفكر وقادة التربية والتعليم وأهل الفن والمسرح الذي أخذ بالانكماش وتقلص دوره الكبير الذي عرفناه في النصف الثاني من القرن العشرين..ولاننسى دور الأزهر ورفده الأمة العربية بالمئات من الفقهاء وعلماء الدين..وستبقى مصر حاضرة الدنيا بمشيئة الله تعالى على مر الزمن..