أثار تأميم الرئيس البوليفي الجديد إيفو موراليس للغاز في بلاده الشهر الماضي تساؤلات كثيرة عن مستقبل النفوذ الكبير للولايات المتحدة في القارة الجنوبية لها، فهذا الزعيم الفلاحي اليساري جاء عبر انتخابات ديمقراطية وليس على ظهر دبابة، وهو معروف بعلاقاته السياسية الوثيقة مع ألد خصمين لواشنطن في أمريكا الجنوبية الزعيم الكوبي فيدل كاسترو والرئيس الفنزويلي هوجو تشافيز، وجاء قراره بتأميم الغاز في بلاده ليثير قلقاً كبيراً لدى الولاياتالمتحدة من إمكانية استشراء هذه العدوى وروح التمرد إلى باقي القارة الجنوبية الغنية بثرواتها الفقيرة شعوبها، فالمد اليساري أخذ يتنامى شيئاً فشيئاً داخل دول أمريكا الجنوبية أو اللاتينية كما يسميها البعض، بل أصبحت أهم دول القارة واقعة تحت هيمنة قادة يساريين وصلوا السلطة عبر الانتخابات كما في البرازيلوالأرجنتين والأوروجواي وتشيلي وإن كانوا لا يميلون لمصادمة الولاياتالمتحدة مثل قادة كوباوفنزويلاوتشيلي، لكن وجودهم في السلطة على أية حال لا يبعث على الارتياح بكل تأكيد، بالنسبة لواشنطن فهو مشروع صداع جديد لها في أي وقت خاصة بعد انضمام فنزويلا إلى مجموعة (ميركوسور) التي تضم البرازيلوالأرجنتين وباراجواي وأوروجواي التي تأسست عام 1994م وتهدف هذه المجموعة إلى بناء اقتصادياتها بعيداً عن هيمنة الولاياتالمتحدة، وحيث هذه الأخيرة ترغب في إحلال اتفاق التجارة الحرة لدول أمريكا محل تلك المجموعة التي طورت علاقاتها الاقتصادية مع العملاق الصيني القادم من آسيا وفتحت أسواقها له بصورة واسعة أثارت انزعاج وقلق واشنطن. لم يكن تاريخ العلاقات بين الولاياتالمتحدة ودول أمريكا الجنوبية دائماً على ما يرام، فالمد اليساري في تلك القارة ما إن يتراجع حتى يعود مرة أخرى بصور وأشكال مختلفة، ولم تنسَ الذاكرة على الإطلاق الانقلاب العسكري الدموي الذي دبرته الاستخبارات المركزية الأمريكية عام 1973م في تشيلي ضد الرئيس اليساري المنتخب ايلندي، وهو الانقلاب الذي جاء بالدكتاتور بينوشيه حتى أطيح به انتخابياً قبل عدة أعوام، ورغم أن المد اليساري الأخير الذي طغى على نتائج الانتخابات في أهم دول القارة الجنوبية، إلا أنه لا يصل لمستوى أن يكون تياراً شيوعياً على الطريقة الكوبية، بل هي تيارات اشتراكية معتدلة لا تكن للولايات المتحدة أي ود حقيقي وإن أبدت استعدادها للتعاون معها من باب تجنب شرها من ناحية واستجلاب دعمها الاقتصادي من ناحية أخرى، نتيجة ما تعانيه من متاعب اقتصادية كبيرة، لكن الدعم الأمريكي الاقتصادي المشروط دائماً، كثيراً ما يسبب الاستفزاز لهذه الدول وبالذات من خلال الشروط القاسية التي غالباً ما تضعها المؤسسات الدولية المانحة على الدول النامية الراغبة في الحصول على دعمها وقروضها، وربما كان النموذج المكسيكي المثقل بالقروض والمنهك اقتصادياً هو أكثر ما يصنع القلق لدول أمريكا الجنوبية من السياسات والمواقف الأمريكية المضطربة والمتناقضة أحياناً تجاه جيرانها، وكل ذلك كان بالتأكيد سبباً مباشراً في تزايد شعبية اليسار المعتدل وشعاراته التحررية وتوجهاته الاقتصادية المغرية للفقراء. ولعل إحساس هذه الدول بأن واشنطن تتعامل معها وكأنها الحديقة الخلفية لمنزلها ومن ثم فإن لها حق التصرف في حديقتها كما تشاء يزيد من حالة التوتر في علاقات الطرفين، فصورة القبض على رئيس بنما السابق نورييغا بداية عام 1990م من قبل قوات أمريكية لم تغب عن الأذهان بعد، جددتها في الأذهان محاولة الانقلاب ضد الرئيس تشافيز قبل عدة أعوام المدعومة من البيت الأبيض، وهو الأمر الذي زاد من شعبية الرجل ليس على مستوى بلاده فقط، بل على المستوى الدولي وبرز كرمز من رموز مقاومة الهيمنة الأمريكية على العالم، وكل ذلك لا بد أن يؤتي ثماره عند شعوب تعاني من أوضاع معيشية قاسية وأوضاع اقتصادية صعبة في وقت لا توجد فيه لدى الولاياتالمتحدة رؤية واضحة لمعالجات حقيقية لتلك الأوضاع، بل وليس لديها أكثر من محاولات إدخال تلك الدول في اتفاقيات التجارة الحرة الخاصة بالمنطقة نفسها والتي تصب في الأساس في مصلحة الاقتصاد الأمريكي. وإلى ذلك فإن انشغال السياسة الأمريكية منذ سبتمبر/ أيلول 2001 بحربها ضد الإرهاب ومعاركها المتواصلة التي لم تنتهِ في أفغانستانوالعراق وجبهتيها المفتوحتين والجاهزتين للتورط في كل من إيران وسوريا، صرفها كثيراً عما يجرى في حديقتها الخلفية، فهي وإن لم تعد قلقة من الأسد الشيوعي العجوز فيدل كاسترو فإن تزايد وصول تيارات اليسار إلى الحكم في بقية دول أمريكا اللاتينية سيضطرها عاجلاً أم آجلاً إلى البحث عن معالجات جدية تمكنها من احتواء هذه الظاهرة بسياسات مختلفة تحول دون انضمام دول كبيرة مثل الأرجنتينوالبرازيلوتشيلي إلى التيار الذي تقوده حالياً فنزويلا وبوليفيا ومعهما كوبا حالياً، لأن ذلك لو حدث فسيؤثر في مصداقية سياساتها على المستوى الدولي، إذ كيف تريد نشر فكرها الليبرالي على كل دول العالم الثالث في حين هي عاجزة عن نشره في حديقتها الخلفية؟ ليس هناك مخاوف من إرهاب قادم من أمريكا الجنوبية، لكن الأكيد أنه ليس هناك استعداد لدى الإدارة الأمريكية لتحمل صداع طويل الأمد من ذلك المكان ومزيد من الاختلالات السياسية والمفاجآت غير السعيدة، وبقدر كلفة السياسات التي يمكن أن تعيد الأمور إلى ما كانت عليه فإن البحث عن تمويل لها بحسب ما اعتادت عليه هذه الإدارة سيتطلب بعض الوقت، لأنها اعتادت معالجة مشاكلها على حساب الغير والخروج من ورطاتها بأقل ثمن ممكن، وإن كان ذلك أصبح الآن محل شك بسبب الورطة الحقيقية القائمة في العراق والحيرة الفعلية في كيفية معالجة الملف النووي الإيراني بأقل الخسائر، وامتداد أمد معركة محاربة الإرهاب حتى أصبحت في بعض الأحيان معركة محاربة أشباح غير معروفة الشكل والمكان دون أن يكون هناك سقف زمني محدد لنهايتها.