ما زال العالم العربي يعج بأحزاب وتنظيمات تتحدث بلسان القومية، وتحمل فكرها شعاراً، فيما الحال يسأل: ياترى هل بلغها العلم بما يحدث في العراق، أم أن للقوميين موسماً للحراك!؟ ثمة حقيقة مؤكدة تقول إن الألفية الثالثة في عصر عولمة الحركات القومية، وتماهيها في أدراج فلسفة الهيمنة الكونية الأحادية.. فكل تفاعلات المشهد السياسي العربي لا تشير إلى أدنى حياة لثقافة قومية، أو تنظيمات تتبنى ايديولوجياتها. لا أعتقد أن التاريخ العربي شهد هتك كرامة أشد وحشية مما يحدث طيلة نحو ثلاثة أعوام على الساحة العراقية التي تجاوزت حالة الاحتلال إلى واقع الإبادة المعلنة للإنسان، والتاريخ، والثقافة، والكفاءات، والموارد الطبيعية، وأخلاقيات المجتمع، وحتى عذوبة الماء والهواء وضوء الشمس.. وطبقاً لاستراتيجيات استثمارية إرهابية لا أحد يخجل من كشفها وتناولها أمام الرأي العام العالمي، والذي كفلت ثورة تكنولوجيا المعلومات والاتصال وصول العلم به إلى داخل غرف النوم. حتى أواخر القرن الماضي كان الإتيان بواحد بالمائة مما يجرى حالياً في العراق كفيلاً بتحريك الشارع العربي من المحيط إلى الخليج بتظاهرات مليونية هادرة ترتعش لها الأبدان.. وكانت التنظيمات القومية تتصدر هذه المواقف رغم عدم قصور القوى الأخرى في هذا.. إلا أن غزو العراق، وكل ما أعقبه من أحداث ما زال حتى اليوم عاجزاً عن هز شعرة واحدة من القوميين، ولم تشهد ساحة أي بلد عربي خروج تظاهرة احتجاجية واحدة تسجل موقفها علناً إزاء ما يجرى. وهنا تبرز تساؤلات: لماذا ابتلع القوميون ألسنتهم إزاء مؤامرة تقسيم العراق، والفتن المذهبية والعرقية التي تؤججها قوات الغزو، وأجهزة الكيان الصهيوني المتوارية في زحام الفوضى، والقوى العميلة التي شرعت للاحتلال حق البقاء، وصناعة القرار السياسي العراقي!؟ وإذا كان الخوف لدى القوميين قائماً على تداعيات ما يسمى بالحرب الدولية ضد الإرهاب، ما الذي يمنعهم من الضرب على الوتر ذاته وتأجيج الموقف العربي باسم التنديد بالإرهاب الذي صار يحكم قبضته على المياه العراقية العامة، ولم يعد عراقي واحد يجرؤ الادعاء أنه بمأمن من مخالب الإرهابيين باستثناء نزلاء «المنطقة الخضراء» من الذين حولوا سفارات العراق إلى سعاة لخدمة عوائلهم التي يخشون عليها دخول بلد أباحوه لقوى الاحتلال، وفتحوا حدوده لكل سفاحي ولصوص العالم لينهبوا ما شاؤوا ويذبحوا كل عقل عراقي كان قبل ثلاث سنوات عنوان عظمة هذا البلد، والأمة وأحد عناصر رهاناتها في تحدي المؤامرات الخارجية. اليوم رؤوس العراقيين تقطع وتوضع بين أكداس القمامة، وبطون الحوامل تبقر بالحراب الأمريكية، والعوائل تذبح بمجازر جماعية، ولا يمر يوم على العراق بغير فاجعة ونكبة تحصد العشرات من أبنائه.. أفلا يكفي هذا لتصحو ضمائر القوميين والإسلاميين وينتفضوا على الذل والمهانة، والعار الذي سيبقى يلاحق كل الأجيال ما لم يأخذ جيل اليوم حقه بنفسه، ويسترد كرامته بإرادته، فليس في تاريخنا عربي أصيل واحد انتظر أن يوهب له المستعمر كرامته، وحريته. لماذا تحولت قضية العراق إلى موضوع محظور التداول، لا يكترث القوميون والإسلاميون لإقامة حلقة نقاش واحدة حوله، ولماذا لم تعد دموع حرائر العراق التي تعرضها الشاشات يومياً تثير حمية وغيرة الإنسان العربي المسلم فيقول لها «لبيك يا أختاه» مثلما عرفنا التاريخ من قبل..!؟ إن ما يحدث في العراق اليوم أكبر من أن يكتبه قلم أو يقرأه لسان.. وإذا ما واصل القوميون صمتهم، ونومهم خلف الشعارات التي يرددونها اليوم في سرهم، فالأولى لهم إعلان البراءة من الفكر القومي من قبل أن يسجلهم التاريخ ضمن صفحاته السوداء استعداداً لجيل قادم يحاكمهم بتهمة التواطؤ ضد العراق، وخيانة ميثاق العمل القومي العربي.