كلما قلنا عساها تنجلي قالت الأيام هذا مبتداها يبدو أن هذا البيت من الشعر أقرب وصف لحال الصومال، هذا البلد العربي الأفريقي الفقير الذي يعاني من حرب أهلية منذ أكثر من خمسة عشر عاماً دون أن يجد الحماس الإقليمي والعربي الكافي لمساعدته على الخروج من محنته الإنسانية المفجعة، والتي نتج عنها تشرد مئات الآلاف من البشر وموت أعداد لا تقل عنهم بالجوع والقتل والأمراض الفتاكة فيما انتهى بنيان الدولة، وأصبحت الميليشيات وأمراؤها هم الذين يتحكمون بالبلاد والعباد لسنوات طويلة. في المحصلة النهائية سنجد أنه لا يمكن التغاضي عن توجيه إدانة تاريخية لنظام الرئيس الأسبق محمد سياد بري الذي جاء إلى الحكم بانقلاب دموي عام 1969م معلناً انتهاج الماركسية اللينينية كمنهج حكم في بلد فقير ليس لديه موارد حقيقية تذكر، وانتهى بعد اثنين وعشرين عاماً، أي في سنة 1991م موالياً للغرب وللولايات المتحدة، تاركاً وراءه بلداً منهكاً مدمراً بسبب حروبه التي لم تنتهِ منذ وصل السلطة، سواء كانت حرب أوغادين التي خاضها ضد اثيوبيا في السبعينيات أو حروبه الداخلية مع معارضيه خلال الثمانينيات والتي انتهت بفراره وسيطرتهم على البلاد، إلا أن عدم وصولهم إلى اتفاق أدى إلى دخول البلاد في حرب أهلية استمرت حتى هذه اللحظة. منذ سقوط نظام بري حاولت أطراف كثيرة التدخل لوقف النزاع الداخلي، لكن الأمور كانت دائماً تزداد سوءاً، فالضربة الأولى الموجعة كانت الإعلان عن انفصال شمال الصومال عن الدولة المركزية والذي عرف لاحقاً بأرض الصومال، ورغم أنها لم تحظ باعتراف المجتمع الدولي حتى الآن إلا أنها أصبحت أمراً واقعاً، وفيما بذلت الأممالمتحدة أول جهد لها لوقف النزاع الأهلي بتوقيع قادة الميليشيات على هدنة لوقف الاقتتال تحت رعايتها مطلع عام 1992م إلا أن الاتفاق لم ينفذ فقررت الأممالمتحدة في نهاية العام نفسه التدخل العسكري في الصومال بقوات أمريكية لوقف الحرب، وعلى الفور بدأت قوات المارينز الأمريكية في الوصول إلى الصومال فيما أطلقت عليه حينها عملية «إعادة الأمل»، لكن الميليشيات الصومالية أخذت تقاوم القوات الأمريكية بصورة لافتة للنظر ودخلت معها في مواجهات عنيفة وأوقعت خسائر في صفوفها وصلت ذروتها بحادثة شهيرة تم فيها قتل وسحل جندي أمريكي في شوارع مقديشو وتم عرضها على مختلف الشاشات التلفزيونية في العالم كله فتركت تأثيراً معنوياً سيئاً على القوات الأمريكية قرر بعدها الرئيس الأمريكي بيل كلينتون سحب قواته من الصومال لتنتهي أول وآخر عملية تدخل دولي بالفشل الذريع! منذ ذلك الحين بذلت عدة دول عربية جهوداً كبيرة في محاولة جمع أطراف النزاع وإنهاء النزاع بينها، لكن دون جدوى، حيث قدم اليمن ومصر والجامعة العربية مبادرات عدة في أوقات مختلفة لاحتواء الوضع في الصومال، لكن مصالح الفرقاء هناك كانت أوسع وأكبر من أية مبادرات حتى عام 2000 عندما تبلورت جهود اليمن والسودان وجيبوتي ودول أفريقية أخرى على اتفاق قضى باختيار رئيس جديد هو عبدي قاسم صلاد ورئيس حكومة هو علي خليف، وجرى احتفال كبير لتنصيب الرئيس الجديد في جيبوتي بحضور قادة الدول المذكورة وزعماء الميليشيات الصومالية المتناحرة، وبدا الأمل كبيراً في إنهاء المشكلة إلا أن أمراء الحرب عادوا في العام التالي للإعلان عن رغبتهم في تشكيل حكومة قومية أخرى بدعم من اثيوبيا وكان موقفهم ذاك كإعلان مفتوح عن معارضة الرئيس الجديد الذي لم يتمكن من دخول العاصمة وأصبح مجرد رئيس رمزي ليس بيده أية سلطات، وعادت كينياواثيوبيا لتدخلا في خط المصالحة إلى جانب جهود مساندة أحياناً ورئيسية أحياناً كثيرة أخرى بذلها الرئيس/علي عبدالله صالح وصلت ذروتها بالاتفاق على تنصيب حكومة مركزية برئاسة محمد علي غيدي وتنصيب الزعيم الصومالي عبدالله يوسف رئيساً جديداً للبلاد، حيث جرى حفل تنصيبه في احتفال كبير أقيم في العاصمة الكينية نيروبي عام 2004 وحيث ضمت الحكومة أبرز أمراء الحرب وقادة الميليشيات إلا أن الاتفاق نص على أن تكون مدينة «بيدوا» الصومالية مقراً مؤقتاً للحكومة حتى استتباب الأمن في العاصمة مقديشو، وفيما التفاؤل يسود الأجواء برز خلاف كبير بين الرئيس يوسف ورئيس البرلمان الصومالي، حيث دعا الرئيس علي عبدالله صالح الطرفين للقاء في مدينة عدن، وبالفعل فقد رعى اتفاق مصالحة بينهما عقد بموجبه البرلمان الصومالي أول اجتماع له في مدينة بيدوا الصومالية. ومن دون سابق إنذار بدأت ميليشيات ما تسمى المحاكم الإسلامية منذ أوائل الشهر الماضي في خوض مواجهات مسلحة مكثفة مع أمراء الحرب وحققت عليهم انتصارات متوالية أعادت إلى الأذهان انتصارات حركة طالبان الأفغانية على القوات الحكومية وقادة الفصائل الأفغانية المتناحرة في أفغانستان خلال شهور قليلة لتستولي على الحكم عام 1996 ويبدو أنه من الصعوبة بمكان إعطاء المحاكم الإسلامية الصومالية توصيف حركة طالبان الأفغانية نفسه، بسبب أن الاتجاهات السياسية والعقدية والفكرية للأولى لم تتضح بعد وليس هناك أكثر من توجهها الإسلامي، وبالطبع فحركة المحاكم الإسلامية ليست جديدة فهي سجلت حضورها الأولي في عام 1994 ولقيت دعماً من أمراء الحرب في سيناريو يتكرر باستمرار في أماكن أخرى من العالم كونها بدأت مهتمة بالتعليم والأعمال الخيرية وتنفيذ الحدود الشرعية، وفيما شكل لها أمراء الحرب غطاءً سياسياً أخذت شعبيتها تزداد في أوساط المواطنين الصوماليين شيئاً فشيئاً، وعندما أدرك أمراء الحرب خطرها ضيقوا عليها مجالات الحركة حتى تراجعت فعلياً، وعادت للبروز مجدداً بعد أحداث سبتمبر/أيلول 2001 بدعم مباشر من القوة الجديدة في المجتمع الصومالي وهم رجال الأعمال والتجار الذين وجدوا فيها مخرجاً لهم من ابتزاز أمراء الحرب، إضافة إلى قدرتها في نظرهم على توفير الأمن والسلامة لأعمالهم وتجارتهم، وهكذا برز عنصر جديد على الساحة الصومالية قلب كل الموازين وربما يقلبها إلى النهاية إذا لم تسفر الجهود المبذولة لإجراء حوار بين الحكومة الانتقالية برئاسة الرئيس عبدالله يوسف وبين قادة المحاكم الإسلامية عن نتائج واضحة، خاصة في ظل التحريض الأمريكي ضد هذا التيار الإسلامي الجديد. لا شك أن الأزمة الصومالية دخلت منعطفاً جديداً تماماً بعد ظهور هذه الحركة الإسلامية، والأكيد أن انعكاساتها لن تقتصر هذه المرة على المحيط الإقليمي بقضايا لاجئين فقط بل سيكون لها انعكاسات سياسية معقدة وبالذات في حال تمكنت هذه المحاكم من السيطرة على جميع الأراضي الصومالية، إذ سيكون أول نظام إسلامي في منطقة القرن الإفريقي، إلا أن ذلك لو حدث فلن يغنيه عن الحوار مع بقية الأطراف السياسية الصومالية والتي تجد دعماً من دول الجوار، ولذلك سيكون قادة هذه المحاكم على قدر كبير من الذكاء السياسي لو قبلوا الحوار مع الرئيس الانتقالي وحكومته كمرحلة أولى يعقبها حوار موسع مع بقية الأطراف، لأنهم بذلك سيختصرون الزمن ويوفرون الكثير من الدماء والسنوات التي يحتاجونها لإعادة بناء الصومال .