رغم فضل الحداثة على حياة البشر إلا أنها أفسدت الكثير من الأصالة، وأذابت بعض التراث، فحتى أسواقنا التي كنا نقرن مسمياتها بالأيام فقدت نكهتها بعد أن شاعت أسواق بيع الضمائر في كل مكان وآن.. وكما يقول الاقتصاديون إن السعر محكوم بالعرض والطلب. فإن أرخص الأسواق هي تلك التي تباع بها الضمائر مقابل خمسة ريالات فوق سعر البيضة الواحدة، أو عشرين غراماً من وزن الرغيف، أو شيء من دماء فقير معدم يمتصها التاجر بسرقة قوت يومه.. والبعض لايتقاضى عن ضميره مبلغاً بل يفضل بيعه مقابل ساعات الدوام الوظيفي أو الاستلقاء فوق المكتب، أو المشورة الفاسدة. هذه الأسواق غريبة وعجيبة، وأغرب ما فيها ان يدخلها السياسيون المتحزبون ليبيعوا ضمائرهم بشهادات الزور، وبأكاذيب، وتلفيقات، أي أنهم يستبدلون ضمائرهم بأثمان قذرة لاتعود عليهم بكسب مادي، أو معنوي، أو ببعض الراحة، بل بالويل والمصير الأليم.. أصبح الأمر مألوفاً عندهم أن يقايضوا الضمائر بصور مشوهة عن كرامة الانسان اليمني، فيجدون المتعة في الادعاء أن كرامتهم سحقت بالأقدام، وأن هناك من يجلدهم صباح مساء، ويعذبهم بشتى الأساليب وقد لايتوانى البعض منهم عن محاكاة تجارب «أبو غريب» والادعاء انه تعرض للاغتصاب.. فمقياس التسعيرة هنا فداحة الاهانة التي تتمرغ بها الكرامة. قديماً عندما كان يجري الحديث عن الأسواق، تكون المفاضلة على أساس الجودة، والندرة.. فيما لوثت الحداثة ذلك المفهوم في عصر التعددية الحزبية، فلم يعد بعض المتحزبين يكترث للجودة والنوع بقدر ما يولي الفضيحة جل اهتمامه عندما يدرك أنه أفلس، وأن عليه أن يبيع شيئاً مما لديه، فلا يجد غير الضمير ليبيعه. في هذا السوق الكبير تجد في زاوية منه أحدهم ذليلاً مهاناً يحدث الناس كيف ضربوه وأهانوا رجولته ليسرقوا منه هاتفه النقال.. وبعده بقليل يقف آخر مرعوباً يحدث الناس بفزع كيف أنه تلقى تهديداً برسالة عبر الموبايل، ومن يومها لايطبق له جفن، وكل أمنيته ان يرسل له وزير الداخلية قوة تحميه من رعب الرسالة الالكترونية اللعينة.. فيما تجد في ركن آخر من أسواق بيع الضمائر رجلاً مفتول العضلات يسرد للناس قصة اختطافه، ويحدثهم كيف أن خاطفية أذاقوه المرارة، وهددوه بأن لايقف في طريق جيوش الولاياتالمتحدة، وان يتفادى الاضرار بسياستها حتى يخيل لك ان هذا الرجل هو من تسميه الناس ب«المهدي المنتظر» الذي سيملأ الأرض عدلاً بعد ان امتلأت ظلماً وجوراً. أناس كثيرون حولتهم السياسة والافلاس الحزبي إلى تجار مهانات، ورذائل، و ابطال ذل وحقارة.. ليقلبوا معادلات القيم الأخلاقية في مجتمعاتهم، ويشرعوا لامجاد الذل والمهانة بعد أن كانت العرب قديماً تفاخر بمآثرها، وانتصاراتها، وقهرها لمؤامرات الخصوم.. وبعد أن كان الرجل يفضل الانتحار على ان يقال عنه إن فلاناً اهانه، أو مسح كرامته بشيء.. فأي انقلاب هذا في قيم الحياة الانسانية !! لاشك أن مايحدث هو لون من ألوان ابتذال مفاهيم العصر التي لم يستطع البعض فهمها واستيعاب متغيراتها فخيل له أن الديمقراطية والحرية هي رديف الممارسات المطلقة التي لايوجد في قاموسها منطق لحدود أدبية، أو دينية، أو اعراف اجتماعية.. فكل غايتها هو بلوغ السلطة، أو انتحال الصفة الوطنية النبيلة التي يستطيع من خلالها الولوج إلى عالم الابتزاز، والمؤامرة، وتجارة الأوطان. وللأسف الشديد إن هؤلاء الذين نسميهم تجار الضمائر يجدون منابر اعلامية يستغفلون وعيها، ويروجون لبضاعتهم عبرها، رغم أن الاعلام رسالة أمينة لاينبغي توريطها، وتدنيسها بالدخول في اسواق بيع الضمائر التي يرتادها المفلسون السياسيون ممن لايجدون مايقدمونه لشعوبهم غير هذه البضائع الكاذبة والمنافقة، والقصص التي يسردونها من خلف قضبان السجون، أو قمم الجبال، أو البراري المقفرة التي يقتادون إليها بعد الاختطاف، أو حتى الشوارع المعتمة التي تُسحق فيها كرامتهم بالجزمات ثم يجمعون ابناءهم ليرووا لهم كيف أن اباهم «البطل» تمرغت كرامته بوحل الرذيلة.. فيالهم من تجار خائبين في زمن لايرحم من يسقط في الحشد تحت الأقدام .. !