وقد أحاط بي الموت من كل جانب.. سواء من داخل الأسرة أم من الأقارب أم من الجيران، أم من الأصدقاء.. فقد تتالت أخبار الموت تترى، ومتعاقبة لا يفصل بعضها عن بعض سوى ساعات، وكثرة تعاقب أخبار الموت على مسامعي أفقدتني الإحساس بالحياة وأحسست أن الموت قد تغلب على الحياة، وهو إحساس ذاتي ليس بالضرورة انطباقه على الآخرين البعيدين عن محيطي الملغوم، والمشبع بالموت. أكتب عن الموت ليس يأساً ولا أكتب أيضاً لتيئيس الآخرين.. ولكن من باب التذكير، وإيقاظ الغافل، وتنبيه المشغوف بالدنيا حتى صارت شغله وهمه، واستغرقت منه كل مسعى، حتى يتعظ ويعود عن نسيانه للموت، فيتعظ، ويحكم حياته، ويقومها فيعيش دنياه لآخرته، ويذكر آخرته لإصلاح دنياه.. فالدنيا هي فترة امتحان واختبار ، إما أن تنجح فيه دنيا ودين، أو تفشل فيه في دنياك وآخرتك.. أو قد تفشل فيه آخرويآً رغم نجاحك دنيوياً، أو قد تنجح فيه أخروياً وتفشل دنيوياً.. الاحتمالات واردة كلها في نتيجة الاختبار. وما أريد هنا قوله للكل : أن نجعل من الموت عظة، فالموت خير واعظ لكل عاقل واعٍ لبيب .. وأقصد هنا العظة الدائمة التي تؤثر في سير حياتنا استقامة واستواء وعدلاً وحقاً، وأمانة وإخلاصاً، وإتقاناً، وإحسانا،ً وخيراً وبراً وعطفاً....و....و.... إلخ ، وليس العظة الأنين في لحظة الموت، أو الصلاة على الميت، أو السير في جنازته، أو في لحظة إنزاله القبر ودفنه، أو في فترة العزاء.. إن الاتعاظ المفيد، والمنجي هو الاتعاظ الدائم والتأثر به في حياتنا.. وألا نغتر بصغر عمرنا وقوة شبابنا، وصحتنا في الرجولة والشيخوخة، فالموت يداهمنا دون أذن في كل الأعمار وفي حالات المرض، وفي حالات العافية، وفي حالات الضعف، وحالات الشدة والقوة ، فإذا حان الأجل لانستطيع ولامجال لنؤخره.. فكم متعافٍ خرج من بيته تاركاً أمراضاً له ينتظر موتهم.. فيعود هو ميتاً بينما يتعافى الأمراض، وكم صحيح قوي رافق مريضاً، فمات وتماثل مريضه للشفاء، وكم شيخ معمر نعتقد أنه أقرب إلى الموت فنجد ابنه وحفيده يموتون شباباً، ويعيش بعدهم عقوداً وكم كبير قوي وصحيح يخرج متبختراً، مباهياً بنفسه. فيرجع جثة هامدة يحملها الناس، وكم طاغية جبار متكبر، متعالٍ ظالمٍ يملك الثروة، والمال والجاه، والقصور، والضيع، مغتر بحياته يتعسف الناس ويؤذيهم، ويضرهم، ويسلبهم.. وما شابه ذلك.. يجد نفسه وقد خارت قواه وآتاه الأجل فلا يستطيع النجاة منه، فيرحل بقطعة قماش إلى حفرة وظلمة القبر تاركاً ملكه وثراه، ليأخذ أوزاره وما ارتكبه في حق الناس.. لتتحول دنياه الناعمة النيرة البذخة اللذيذة إلى جحيم، وعذاب، وظلمة حريق، وألم دائم وأبدي.. جزاء لسعيه إلى نعيم الدنيا، على حساب نعيم الآخرة، واعتقاده الخلود، ونسيانه أنه إلى الله راجع. في الختام كما قلت : إن الدنيا تريد، والآخرة تريد.. فالحياة للاستخلاف، والآخرة للحسة. والعقاب أو الثواب.. فالنعمل لدنيانا كاننا نعيش بداً.. ونعمل لآخرتنا كاننا ميتون غدا، والله لايضيع أجر المحسنين.. واسال الله لايرينا مكروها!، أنا وإياكم جميعاً.. ورزقنا نعيم الدارين.