ودرس آخر نتعلمه من هجرة الحبيب المصطفى صلوات الله عليه وسلامه وهو أن الحكمة تقتضي عدم المواجهة، إذا كان صاحب المبدأ ضعيفاً في عدده وعدته، فلابد أن يحرص: أولاً: أن يؤهل عدداً من المناصرين الأشداء الأقوياء في مكان آخر يتوافر فيه المكان الآمن والإمداد الذي لا ينقطع، وهو ما يسميه أهل الاستراتيجيا اليوم "الغطاء اللوجيستي". ثانياً: أن يكون المكان المهاجر إليه متميزاً بعمق منيع يصعب اختراقه بأي حال، مما يتيح لهذا المهاجر أن يخطط بسهولة ويسر لمراحل مقبلة، وهذا ما حدث للرسول الكريم عليه الصلاة والسلام، وليست بيعتا العقبة الأولى والثانية إلا مقدمة منطقية لانطلاقة أكثر توفيقاً لهذه الدعوة الوليدة. فلقد مضى رسول الله عليه الصلاة والسلام يستضيء بهدي من الله تعالى، فيخطط للقادم من الأيام بعد أن رأى أن قريشاً لا يمكن أن تتركه في الدعوة إلى إله جديد تذهب في الدعوة إليه سيادة قريش على مكة؛ وتصبح آلهتهم التي تُعبد من دون الله من أصنام وأوثان وشرائع أخرى في خبر كان، ولا يمكن لمحمد عليه الصلاة والسلام أن يغير على هذه التقاليد التي تجعل من سادة قريش وأهلها كعبة العرب يقدمون إليها من كل حدب وصوب للحج والطواف حول الكعبة فتزدهر بذلك تجارة قريش ويستحقون المال والعطايا، ويتقاسمون ما تجود به الأقطار من هبات وهدايا يستحقها كهنة البيت وسدنته، الأمر الذي اقتضى بلغة الحرب إجراء «تكتيك» آخر وهرباً إلى الخلف من أجل كر إلى الأمام. كان النبي عليه الصلاة والسلام يغتنم مواسم الحج ليعرض نفسه على القبائل ويبشّر بدعوة الإسلام ويلتمس أعواناً وأنصاراً لدين رب العالمين، وهو بهذا يعلّمنا أن الإنسان أو الداعية لا يمكن أن يشعر بالإحباط واليأس؛ بل عليه أن يمضي يبشر بدعوته دون كلل أو ملل، فقعد العقبة التي تقع في مقربة من البيت العتيق، ذهب يلتمس العون من أخواله اليمانيين من سكان «يثرب» بني النجار.. وغداً لنا لقاء.