السماء صافية والشمس تشرق رويداً رويداً، ونحن ننطلق من صنعاء إلى كلية التربية مأرب.. سواق الباص يسابق الزمن لكي نصل في الوقت المحدد، فجأة لاحت أمامنا شاة عجوز تترنح وسط الطريق الاسفلتي، كان أمام السائق خياران.. إما أن ينحرف بالباص فيُقتل من فيه، وإما أن يقتل الشاة؛ فاختار الخيار الثاني بوصفه أقل ضرراً، فوقفنا في جوار الشاة حتى يأتي أصحابها فندفع لهم ثمنها. فتوافد الناس من مختلف العشائر والقبائل؛ وكل واحد منهم يذكر جداً من أجداد هذه الشاة، حتى وصلت هذه الشاة في حسبها ونسبها إلى بداية القرن الأول الهجري، وبلغ ثمنها 200.000ريال دية القتل الخطأ!!. ياه كم هي محظوظة هذه الشاة مقابل رخص الإنسان الذي يُقتل كل يوم في مأرب والجوف وصعدة ومناطق أخرى من اليمن، كم من القتلى يسقطون كل يوم بسبب الثأر أو بسبب الأفكار المتطرفة أو بسبب العنجهية واغتصاب الأراضي. تساءلت: ماذا لو كان هؤلاء الذين يسقطون كل يوم شياة أو حتى كلاباً؛ أليس ذلك كان سيجعل من قتلهم مشكلة؟!. إن قتل الإنسان في بلادنا لا يثير أي اهتمام، لذلك يسقط العشرات يومياً في طول البلاد وعرضها، حتى داخل العاصمة ذاتها، إنها ثقافة القتل، فعندما تختلف مع شخص يسارع بالقول: إن قيمتك طلقة رصاص، وهو بذلك يعلي من قيمتك، لأن شخصاً آخر يقول لك: "خسارة فيك طلقة الرصاص" يقتل الإنسان عندنا بسهولة ولامبالاة، فالنفس البشرية مهانة ومحتقرة. إن ذلك يعود إلى هذه الثقافة التي نحملها والتي تقوم على الرؤية الأحادية للإنسان والحياة، وهي ثقافة يحملها الفرد وتروج لها الأحزاب وتجسدها المذهبية. إن خارطة الثقافة اليمنية ترتكز على مكون أحادي، سواء على المستوى السياسي أم الفكري أو الاجتماعي، فالكل يرفض الحوار ويرفض التعدد والاختلاف، إن ثقافتنا تضيق بالآخر، فهي تجعل صاحبها يعتقد أنه كامل والآخر ناقص. وعلى هذا الأساس نرى التراتب الطبقي، فهناك الشيخ وهناك الرعوي، وهناك السيد وهناك الحلاق والجزار والخادم، هذا التمايز يجعل صاحبه يقتل الآخر تارة باسم الدين وتارة بدافع القوة. إن الإنسان اليمني مازال يعيش بغرائزه ولم يتلق بعد تدريباً معرفياً يرتقي به من مرتبة البشرية إلى مرتبة الإنسانية، فمازالت القبيلة تؤسس للأعراف القبلية وتحمي القاتل، والإسلامي يصلي من أجل تدمير الآخر المختلف عنه. إننا نعيش ثقافة الفاشية، فعندما يقتل فرد من قبيلة مع فرد من قبيلة أخرى فإن القبيلة لا تلجأ إلى القانون لمحاسبة المعتدي، وإنما تلجأ هذه القبيلة أو تلك إلى الثأر.. إننا مازلنا نعيش وحشية العصور القديمة، وتحكمنا ثقافة الجهل والسفه والطيش. والناظر إلى المناهج الدراسية والبرامج الحزبية يندهش لغياب أي اهتمام ببناء المواطن الصالح والإنسان المتطور الذي تحكمه القيم التي نصبو إلى ترسيخها داخل المجتمع. إن هذه المناهج وهذه البرامج تنشئ أفرادها على الفضائل الفردية التي تقوم على القوة الجسدية، هذه النزعة الفردية تغلب على ثقافتنا، مما أدى إلى تفسخ المجتمع وتخلق لديه عدم احترام لمؤسسات الدولة، فالفرد اليمني لا يحسب بارتباطه بالدولة وإنما هو في حل منها؛ وهذا ما نشاهده من قبل الأحزاب التي تقف دائماًَ ضد الدولة في منازعاتها مع الخارجين على الشرعية الدستورية. أنا أدعو كل القوى السياسية وكل المثقفين والمفكرين إلى إرساء ثقافة تحث على نبذ الخرافات والعصبيات المقيتة وعدم الاستغراق فيها، وإرساء ثقافة تؤسس لمبادئ الإخاء والقبول بالآخر، إن حياة اليمني مليئة بالشرور والفظاعات، لأن ثقافته تقتصر إلى الإدراك السليم لحقائق الحياة الإنسانية وقيمتها. أعترف أن مهمة التغيير في الواقع الراهن هي مهمة صعبة ومعقدة، لكن ذلك سيكون ممكناً إذا ما توفر العقل والفكر والحرية والدولة التي تتطلع إلى المستقبل!!.