لتدارك مشكلة الفساد الآخذة بالتجذر والتشعب والتي تستعصي على الحل يوماً بعد يوم ليس من حل سريع سوى النقد المسؤول والذي نراه حجر الزاوية في رشد أداء الدولة لوظيفتها على كافة المستويات مستفيدين من حرية الصحافة بفضل التوجه الديمقراطي للدولة اليمنية وما تحظى به من حماية قانونية وإرادة سياسية عبر عنها الرئيس علي عبد الله صالح رعاه الله في مناسبات عديدة. فعن طريق صحيفة الجمهورية المتألقة تحدثت عن انحرافات إدارية لعل وعسى أن تبادر الجهات المعنية بتصحيح أخطائها، وتباينت الردود بين مؤيد ومعارض بل أحدهم غضب وقال هذا مفلس، فقلت رحم الله من أقر وشرع لحرية الصحافة في النشر وحرية القول وانتقاء المعلومات ونشرها، لم يكن ببال المشرع جعل الصحافة من الأمور الترفيهية وإنما كان توجهه واضحاً لتكون الصحافة سلطة ووظيفة لخدمة المجتمع وضرورة وحاجة إنسانية لحماية سيادة القانون، ورجعت إلى تاريخ يمن ما قبل الوحدة إلى ما قبل منح الصحافة الحرية الكاملة، وكيف كان موقف مؤسسات الدولة الرافض للرقابة بجميع أصنافها ومنها غياب حرية النقد، وما خلفته المؤسسات من تراكمات وأحداث وأزمات متتالية مرت بها اليمن، وقد كتبت في كتاب القضاء الإداري (عندما غابت حرية النقد والرقابة كان التستر والكتمان على المفسدين فعمت الرشوة والمحسوبية ونهبت أموال الشعب). وقد أخبرني زميل أن مسؤولا في الوزارة التي كان يعمل بها قد أنزل عليه أشد العقاب لأنه انتقد في الصحافة الممارسات الخاطئة فضايقه في معيشته و سلب حقوقه و نعته بأوصاف الخيانة والعمالة حتى أسكته ومن يومها رفعنا شعار (من سكت سلم ) فسكتنا وسكنا جميعاً، فكانت النتيجة بصورة عامة انهيار الاقتصاد وتخلفت الدولة وتعلم الشعب التواكل على الحكومة واستمر العبث الإداري والولاءات الضيقة، وتدني مستوى الأداء الوظيفي وتضخمت أجهزة السلطة. فقلت: الحمد لله أني قلت ما قلت في عصر الحرية، فهاهي الصحافة اليوم تخلق رأياً عاماً ضد الانحراف من خلال ما تنشره من وقائع ومخالفات على بعض المسئولين وتعسفاتهم حيث العقلاء منهم من استفاد من النقد وصحح أخطاءه، ومنهم من كابر وبقي على غيه حتى وصل الخبر الذي تناقلته الصحافة إلى مسئولي الرقابة ومنهم ممثلو الشعب في مجلس النواب فتحروا ثم مارسوا سلطاتهم فوجهوا الأسئلة والاستجوابات للحكومة عن أخطاء موظفيها. لذلك أيها الزميل ألم تسمع إلى أم كلثوم وهي تقول:( واثق الخطوة يمشي ملكا) ثق بأن من يمارس حقه في التعبير بالطرق القانونية سوف يتحمل المسئولية المدنيةً والجنائيةً عن رأيه لذلك يشترط أن يكون صادقا موثقا نفسه بالأدلة الواضحة. أيها الناصح الطيب أمثالك لا يزالون غير مستوعبين أهمية الصحافة وأدوارها القانونية، لقد استمعت منك إلى الحكمة القائلة) من عاش مداريا مات مستورا) وأنا بدوري أقول: (بني إسرائيل ما لعنوا إلا بعد تركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) وقال آخر: (من مواقعك تستطيع اصلاح الخلل دون التشهير). وفي رد سريع قلت: في الأسبوع الماضي، قال:- زميل- كنا في اجتماع لمجلس المؤسسة التي أنا مدير عام فيها تحدث مدير آخر فقدم لحديثه مقالات منها حديث المصطفى (صلى الله عليه وسلم) « رحم الله امرءاً أهدى إلي عيوبي»] وقول لأبي بكر الخليفة رضي الله عنه(لا خير فيكم إن لم تقولوها ولا خير فينا إن لم نسمع). وعند مباشرته لنقد مستتر أحمرت الأوداج وعلت الأصوات وضاقت القلوب التي في الصدور، من هذا الحديث الذي سمعته قلت للمتحدث الناصح: سلام على الصحافة وأهلها فقد عزموا على مكافحة الفساد بفضح الفاسدين بالقلم ودون الرجوع إلى الوراء.. قال الزميل: وهل تستطيع المؤسسات وقادتها في جو المماحكة إنتاج التنمية؟ فقلت: بالله عليك هل يتوقع أحد من مثقف اليوم أن يسمي النقد مماحكة أو يخاف من قول الحق؟ وبدون نقد وتقييم هل نستطيع تحمل عبء التنمية الشاملة على المستوى الحضاري برمته ونؤسس للحياة نظاماً تحترم فيه الإنسانية؟ هكذا مجالسنا كما لو أن حقل الصراع قد انتقل من مجاهدة العلم والتنمية والظفر بهما لترقية المجتمع إلى حقل جديد هو حقل المجاملات والمماحكات والمصالح الشخصية وليس النقد المسؤول والتقييم لإحداث التقويم. إن الفهم المغلوط عند المثقفين لحرية الصحافة مؤشر على تدن خطير في سقف الأهداف والطموحات والغايات التي لن تخرج إلى النور إلا بالنقد. ولا شك أن مثل هذا الفهم يحير المراقب والباحث ويبعث على الإحباط وهو كافٍ لدق ناقوس الخطر ولإثارة الكثير من التساؤلات منها:كيف يمكن الحديث عن فاعلية مؤسسة لا تؤمن بحرية القول ومن المفترض أنها القدوة في المجتمع؟ بل كيف يمكن توقع وجود عدالة أو حقوق مصونة أو أمان وظيفي أو احترام للمكانات الوظيفية والكرامات الشخصية وتطلع نحو الطموحات ونحن نعيش في بيئة ربما نفترض، ظلما، أنها قريبة من كل شيء، وهي أبعد ما تكون عن تقبل النقد والإدارة والعلم وأخلاقياته؟ فإذا لم نجد صحافة حرة نحتكم إليها و تسمع منا النقد وتوصل رأينا لمن هم أهل للحل والعقد فالنتيجة هي التسلط والقهر، وسيكون الفيصل في النزاعات بين الموظفين ليس القانون بقدر ما تبدو المعايير الذاتية من أهواء ومصالح ومغانم شخصية وأحقاد وضغائن ذات سطوة وبأس على هذا وذاك. أما لو تصبح المؤسسات متمكنة وقوية بالعمل المؤسسي فإنها لا تخشى النقد ولا تعدد الآراء، بل تستفيد من كل ذلك بتصحيح أخطائها وتجعل من توجه الرأي العام قبلتها، فيتحقق لها الاستقرار والنماء، وعندما نشعر بضيق صدر مسؤول ما ونرى أنيابه ومخالبه تظهر لمجرد سماع نقد بسيط نشير بالبنان إلى الرئيس الصالح -حفظه الله من كل شر- ذو القلب الكبير الذي لم نسمع عنه أنه وجه بحبس أو نفي أو فصل صحفي انتقده وبذلك بنى دولة قوية بعد أن كانت منهارة، أما آن لكل مسؤول الاقتداء؟ - عميد كلية الحقوق بجامعة تعز